رحلتي في المهرجانات السينمائية… عوالم اكتشفها وذات تبحث عن نفسها

23/03/2023
الصورة
1
Author
إسراء الردايدة

أقف أمام الشاشة الكبيرة حائرة، بترقب وحماس كبيرين، أنتظر أن يكشف لي أي فيلم أشاهده عن السحر الذي يختبئ في طياته، أشعر بفضول كبير وأنا أبحث عن إجابات لكل مشهد أراه وشخصية ألتقي بها، وكيف ستؤثر بي. هذا أول ما أفكر به عندما أشاهد أي فيلم في أي مكان.

 

 

لكن الأمر مختلف مع بداية رحلتي في 2008، كصحافية متخصصة بالأفلام ولا أميل أو أحبذ استخدام مصطلح ناقدة سينمائية لأنه ثقيل وعميق ويحتاج للكثير وأنا ما زلت في أول الطريق. أشعر وكأنني “أليس في بلاد العجائب”، رحلة اكتشاف لا تنتهي، كل مهرجان حضرته منذ عام 2011 رحلة تعلم ودروس انتظرها بشغف كل عام، وهذا مرتبط بما علمني إياه معلمي الناقد السينمائي والزميل ناجح حسن منذ عام 2006.

 

 

نعم، هو من أثر بي وعلمني كل ما أعرفه اليوم وأدين له بالفضل بكل شيء. ولكن أمي أيضا لعبت دوراً كبيراً، فهي من اعتاد أن يأخذني للسينما كل أسبوع في صغري مع أخوتي، حينها كانت أشهر دور السينما بلازا وجاليريا وفيلادلفيا ولاحقاً جاءت دور العرض الحالية مكة مول وتاج مول وسيتي مول. كنت وما زلت أجد نفسي في الأفلام، فهي ملاذي وعالمي وربما هذا ما دفعني لمواصلة الكتابة في هذا المجال من خلال صحيفتي الغد والجوردان نيوز.

 

 

في أول مهرجان حضرته كان الأمر صعبا، فأنا لم أتواجد من قبل في مكان كبير فيه صحافيون من جنسيات مختلفة. ومرة أخرى الفضل يعود لناجح حسن، حيث كانت أول دعوة تلقيتها من انتشال التميمي آنذاك من خلال مكالمة هاتفية تلقاها ناجح منه عام 2011، قال لي ناجح: إسراء هذه المكالمة لكِ. كان انتشال حينها يشغل منصب مستشار في إدارة مهرجان أبو ظبي السينمائي وقال لي: “أتشرف بدعوتك وحضورك معنا”. لا زلت أذكر كلماته بحماس وفرحة كبيرتين.

 

 

وبدأت الرحلة منذ ذلك الوقت، أزور المهرجانات وأنا أحمل دفتراً صغيراً في حقيبتي، أقرأ جدول العروض وسط حيرة كي أختار الفيلم الذي سأشاهده ومن صنعه، أقوم بتحرٍ كاملٍ عن الأعمال السابقة وأدرسها كأنها واجب وأنني على وشك الدخول لامتحان. لكن الحقيقة أن كل هذا بسيط نسبيا. فبمجرد انتهاء الفيلم، تبدأ رحلة أخرى وهي: ماذا سأكتب ولما سأكتب، كيف سأنقل ما شاهدت وأحوله لكلمات يقرأها متلقي المقال ويشعر بما شعرته؟ كيف أضعه مكاني؟

 

 

الإجابة حتى اليوم تشكل لغزاً بالنسبة لي وفي كل مرة أكتب فيها عن فيلم، وكأنها أول مرة أكتب فيها، وتتطور ذلك بعد حضوري لمهرجان “كان السينمائي” في عام 2012. في ذلك الوقت لم أكن متأكدة بأنني أريد الاستمرار في الكتابة عن السينما والأفلام، لكن صديقي المخرج المصري أمير رمسيس أقنعني بالذهاب وتقديم أوراق الاعتماد للمهرجان، وكانت المفاجأة هي قبول الاعتماد، وهنا كان التغير الأكبر.

 

 

رحلة “كان” خططت لها بالكامل بنفسي – الحجوزات والتذاكر والاستعدادات.  كلفتها عالية ولكنها كانت تحولاً مفصلياً في مهنتي وحياتي بأكملها. خلالها تعلمت أن الشغف الحقيقي يكون من خلال الجدية والعمل. تخيل وجود 5000 ناقد سينمائي وصحافي في مكان واحد، الاستيقاظ المبكر وأعني بذلك قبل الثامنة صباحاً والاصطفاف في طابور طويل لدخول أول فيلم حيث الأولوية لمن يحضر. الركض بين أروقة المهرجان صعبة ولكنها تستحق كل عناء: الشاشة الضخمة جداً في قصر المهرجانات والمؤتمرات في مدينة كان ساحرة جداً، عروض السجادة الحمراء، الأجنحة الدولية لكل بلد هناك، حيث يلتقي الجميع ويكون صلات وشبكات انعكست بشكلٍ كبيرٍ لاحقاً على مهنتي وعلاقاتي.

 

 

عدت من كان شخصاً مختلفاً، التقيت بنقاد عالميين وصحافيين مخضرمين، وقررت مواصلة الشغف والكتابة فيما أحب. طورت من ذاتي، قرأت كتباً كثيرةً عن النقد السينمائي وعن المخرجين، شاهدت أفلاماً من جنسيات مختلفة، ثقافات لم أكن أعلم عنها شيئاً. قابلت مخرجين حصلوا على الأوسكار منهم الرائع الإيراني أصغر فرهادي الذي أجريت مقابلة معه في أبو ظبي ولاحقاً بعد عام في 2012 نال الأوسكار عن فيلمه “انفصال”.

 

 

في كل مرة أتواجد فيها في مهرجان عربي أو دولي، أبحث عما هو جديد. أقابل أشخاصاً مؤثرين، مخرجين ومخرجات جدد وقديرين، صنعوا فيلماً للناس. نعم السينما للجميع، هي ملاذ حيث نتوحد جميعاً؛ هي عالم عادل، يخبرك عن كل شيء لا تراه؛ تنقل لك ما لم تشعر به من قبل، تبقى تفكر بعدها بكل شيء سواءً أعجبك أم لا، فتجربة المشاهدة تترك فيك أثراً وتعلمك.

 

 

من أقرب المهرجانات وأحبها إلي كان دبي السينمائي وأبو ظبي اللذين توقفا قبل سنوات قليلة، لكن أغربها هو أيام قرطاج السينمائية في تونس، التي كانت تعقد كل عامين والآن تعقد سنويا لكنها عادت لنظامها القديم. في تونس السينما جزء من ثقافة شعبها، ففي كل شارع هنالك ناد سينمائي، تجد فيه أفلام أفريقية وهي مذهلة للغاية، ثقافات أكتشفها حيث تنقل لك كل ما لا يجيد محرك البحث غوغل الإجابة عنه. السينما الأفريقية غنيةٌ جداً، شيءٌ لا يمكن شرحه إلا إن حضرته، تدرك فيه كيف للسينما أن تغير من الفكر والمجتمع. وقد لا تنفرد تونس بذلك لكن هذا ما شاهدته ولمسته خلال زيارتي لها.

 

 

وهنالك أيضا سيدة رائعة تدعم الشباب التونسي بلا كلل أو ملل وهي المنتجة درة بوشوشة، تمثل الرقي بذاته وهي التي أسّست جمعية “كتابات الجنوب” التي قدمت من خلالها مواهب تونسية وأفلام كثيرة، ذات طاقة إيجابية أثرت بي بشكل عميق وساندتني كثيراً. علمتني أنك تستطيع أن تكون ما تريد بمجرد تيقنك أنك قادرٌ على هذا وأنه لا حدود للخيال وأن الخيال جزء من الحياة والتجربة والعيش بإنسانية وكرامة.

 

 

ثم يأتي كل من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في مصر، ذلك المهرجان حيث يشعل كل منافسة ويحولها لمهرجان بحد ذاته، مدينة لا تتوقف الحياة فيها، كل مشارك فيه إضافةٌ نوعية وصداقة جديدة؛ أفلام رائعة، مسابقات لا تنتهي، نقاد وصحافيون، فيه تجد كل ما تبحث عنه في مكان واحد، علاقات وشبكات عميقة مهنياً وإنسانياً، تعلمك، تبهجك وتتركك لتعيش تجربة متجددة في كل دورة؛ العاملون والقائمون عليه أجيال مختلفة، لكنهم يتشاركون الشغف نفسه.

 

 

الأفلام الجديدة في كل مهرجان تساعدني في توسعة المعرفة والفهم للأنواع والأنماط والثقافات المختلفة لصناعة الأفلام، التعرف على اتجاهات الصناعة التي تتوسع بالحلقات النقاشية وورش العمل، فضلاً عن التشبيك، وهو الحلقة الأهم لكل محبي السينما المهنيين وحتى من خارج الوسط، إذ تجمع مهرجانات الأفلام بين صانعي الأفلام والموزعين والمنتجين وغيرهم من المتخصصين في الصناعة من جميع أنحاء العالم. وهذا يوفر فرصة فريدة للقاء أشخاص جدد وإجراء اتصالات والتعرف على المشاريع الجديدة في الصناعة. مهرجانات كثيرة، أفلام جديدة، لكن أجمل شيء هو لقاء الأصدقاء. كل من أعرفه يحرص على التواجد في كل مهرجان عربي ودولي؛ نحن شبكة واحدة عربية من جنسيات مختلفة، اكتسبت أفضل الصداقات التي أعرف من خلال رحلتي المستمرة، أسماء أساتذة أدين لهم بالفضل الكبير لأنهم منحوني وقتا ونقاشات ثرية لم تتوقف حتى اليوم.

 

 

وآخر وليد لمهرجانات المنطقة العربية هو مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، في مدينة جدة في السعودية، حيث الانفتاح الثقافي والفني، وجهة استثنائية في منطقة كانت السينما فيها ممنوعة ل 36 عاماً، لكنها اليوم توفر فرصاً كبيرةً للمخرجين السعوديين والعرب. ولكن أجمل ما في رحلتي حتى الآن، وهو الذي مثل حلماً بات حقيقياً، هو ولادة مهرجان عمّان السينمائي الدولي- أول فيلم، الذي ينعقد تحت مظلة الهيئة الملكية للأفلام، برئاسة الأميرة ريم علي.

 

 

الهيئة الملكية شكلت جزءا كبيرا من رحلتي وثقافتي عبر سنوات عملي في تغطية فعالياتها لعروض الأفلام الجميلة من مختلف دول العالم، اكتسبت الكثير من الخبرة في المشاهدة والحلقات النقاشية حتى صرت أشارك في لجان تحكيم محلية في مهرجان الفيلم الفرنسي العربي ومهرجان الفيلم الأوروبي، وأجملها كان تجربتي مع المخرج الراحل محمد خان في 2014. مثل تلك التفاصيل لا يمكن نسيانها، حلم أصبح حقيقة.

 

 

اليوم، وبعد ثلاث دورات للمهرجان في الأردن أشارك بكل فخر في كل دورة، أشاهد أعمالاً رائعة هي الخطوة الأولى لصناعها في عالم ساحر. ما يبذله مهرجان عمّان السينمائي الدولي والرسالة التي يحملها تشكل المشهد السينمائي المحلي ومستقبله، والتي تكبر يوماً بعد يوم وتحمل غداً واعداً.

 

 

رحلتي ما زالت في بدايتها، لكن ما أستطيع قوله هو أنني أشعر بفخر لما وصلت إليه وحققته.  كل مقالة كتبتها هي جزء من كياني، هي درس ورحلة اكتشاف لذاتي وعالم كبير نكتشفه كل يوم. فالسينما والأفلام تلامس قلوبنا وتوقظ رؤيتنا وتغير الطريقة التي نرى بها الأشياء، تأخذنا إلى أماكن أخرى، وتفتح الأبواب والعقول. الأفلام هي ذكريات حياتنا، شكل من أشكال السحر، ربما وسيلةٌ رائعة للهروب من الواقع، لكنها انعكاس لعصرنا، وسيلة للناس للتواصل ومشاركة قصصهم وتجاربهم. فللأفلام القدرة على الجمع بيننا ومساعدتنا في فهم بعضنا البعض بشكل أفضل.

 

 

إسراء الردايدة
صحافية سينمائية وكاتبة ومحررة SEO في جريدة الغد والـJordan News.