مهرجان عمّان السينمائي الدولي – أول فيلم … دورة الأحلام التي رسخت واقعا مستمرا
حدث سنوي سيستمر كل عام لدعم المواهب السينمائية المحلية والعربية
بقلم إسراء الردايدة*
في دورته الإفتتاحية الأولى، حمل مهرجان عمَان السينمائي الدولي – أوّل فيلم، على عاتقه مسؤولية كبيرة وهي أن يعقد فعالياته في ظل أصعب الظروف التي يمرّ بها العالم، نتيجة تفشي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) الذي فرض إعادة رسم شكل المهرجان بعد اعلان تأجيله في نيسان (إبريل) الماضي.
وفي استجابة ذكية للمتغيرات الصعبة، قدمت إدارة المهرجان مخرجات عملية ذكية جعلته أول حدث عربي سينمائي في المنطقة بعد توقف كل المهرجانات العالمية وتحولها لعقد فعالياتها عبر “الأونلاين” أو حتى الغائها، لكن مهرجاننا فضل أن يفي بوعده ويقدم أفضل ما في جعبته على مدى 11 يوما.
هل يكون المهرجان حقيقيا من غير ضيوف؟
حسنا، إن التحدي الأكبر الذي غيّر شكل مهرجان عمّان السينمائي هو غياب ضيوفه من مخرجي الأفلام والعاملين في السينما والإعلاميين جرّاء قيود السفر التي يخضع لها العالم، فكان التركيز على الجمهور المحلي بشكل أكبر.
ولكن هل يعتبر المهرجان ناجحا؟ أعتقد نعم، فعلى الرغم من أن وجود ضيوف يُعدّ أمرا حيويا لأي مهرجان سينمائي وهي غاية أساسية منه، لكن تفاعل الجمهور المحلي مهم أيضا وإن لم يكونوا من العاملين في القطاع نفسه.
والدليل على هذا هو الحضور الكبير الذي شهدته العروض التي وصلت ل 39 فيلما هي الأولى لصناعها، الأفضل والأحدث من الإنتاجات العربية والعالمية، وغالبيتها حصد جوائز رفيعة في مهرجانات دولية.
وفي ظل الظروف الراهنة التي تحتم التباعد الجسدي والإغلاقات عالميا، وجد “عمّان السينمائي” حلا في عرض خياراته من خلال تجربة فريدة هي “سينما السيارات” التي تقام لأول مرة في الأردن والمنطقة العربية. فهي الوسيلة الوحيدة التي كنت متاحة كي يكون الجمهور قادرا على مشاهدة الأفلام في ظروف صحية وقائية تحقق شروط التباعد، بأوقات منتظمة وشاشات ذات تقنية عالية وصوت واضح يذاع عبر موجة بث مخصصة. فيما استضاف مقر الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، التي يُعقد المهرجان تحت مظلتها، عروضا في مسرحه الخارجي في الهواء الطلق.
وفي حين كان من الأفضل أن يتم استخدام قاعات السينما في منطقة البوليفارد لتحقيق حضور أكبر من الجمهور المحلي في ظل غياب الضيوف الدوليين من صحافيين ونقاد سينمائيين وعاملين في قطاع صناعة الأفلام. لكن قرار إغلاق دور السينما مستمر منذ شهر آذار (مارس) وقف عائقا أمام تحقيق ذلك، فكان من فريق المهرجان والقائمين عليه ابتكار حلول أخرى عملية وقابلة للتحقيق ليصبح المهرجان واقعا، وهو ما حصل فعلا.
أفلام لا تنسى
39 فيلماً، أغلبيتها الساحقة هي الأولى لصناعها لتمثل ثيمة “أول فيلم”، بغية دعمهم وتشجيعهم وتوفير منصة دولية لهم. وليس هذا فحسب، بل جاء وقت عقده ليكون مساحة للهروب وتجاوز الآثار التي خلفها وباء كورونا الذي شهد إغلاقا طويلا تسبب بتزايد الضغوط النفسية للكثيرين.
ومن أبرز الأفلام التي عُرضت في هذا المهرجان، أو بالأحرى التي لفتت انتباهي:
“البؤساء”: وهو الفيلم الفرنسي الأول لمخرجه لادج لي، عن السلطة والفقر في العصر الحديث في فرنسا، والذي نال جوائز عالمية ورشحته فرنسا ليمثلها في جوائز الأوسكار عام 2019. اختاره المهرجان ليكون فيلم الافتتاح. فيلم واقعي يلتقط التوترات في المجتمع الفرنسي لاسيما في وضواحي مدنه الفقيرة.
يعتمد لادج لي بفيلمه هذه المواجهة والأجواء الثورية مبرزا عناصر الصراع بين السلطة والفقراء من واقع يكشف أن المساواة أمر غير حقيقي على أرض فرنسا، فهؤلاء المهاجرين والعرب وغيرهم من الذين قدموا لفرنسا بحثا عن وطن لهم يعانون إلى حدّ بعيد من التهميش.
واقع صعب، وسط مطاردات في ضاحية مونتفرميل الباريسية الشرقية، نقف أمام توثيق حقيقي لتفاصيل ارتبطت بحياة المخرج نفسه، من وحي أحداث حقيقية، في دعوة للتفكير بأن “ما فعلناه كمجتمع، وما زلنا نفعله، وما الذي يمكن عمله لتغيير الأمور قبل فوات الأوان”، لنحيا بعدالة وكرامة.
“ستموت في العشرين”: فيلم للمخرج أمجد أبو العلا، ونال جائزة السوسنة السوداء لأفضل فيلم روائي عربي في المهرجان، فضلا عن نيله جائزة أسد المستقبل في مهرجان البندقية، ونجمة الجونة الذهبية في مهرجان الجونة.
يعد الفيلم الروائي الأول منذ 20 عاما في السودان، من وحي رواية قصيرة لحمور زيادة “النوم عند قدمي الجبل”، وفيه يمزج أبو العلا بين الخرافة وأثرها على المجتمع في ملحمة سينمائية رائعة.
بطل الفيلم مزمل، يكافح ليعيش حياته بعد تكهنات شيخ صوفي، وكيف لتلك الخرافات الدينية أن تتحول لصورة من العواطف البصرية التي منعته من التمتع بحياته وقيدت والديه.
تفاصيل دقيقة في الريف السوداني تمتزج في رمزية البحث عن الحرية في ظل نظام قمعي، تلك السلطة الدينية التي تفرض نفسها دائما وتعيق سير الحياة فتصبح من المسلمات وإن لم تكن بقناعة. صور الفيلم تنبض بالحياة، بين صراع داخلي لشخصية الفيلم الرئيسية وحتى الشخصيات الثانوية الأخرى، كلها رحلة استكشاف عميقة على ضفاف النيل المحملة بكآبة مظلمة، لكنها مذهلة بالوقت نفسه.
فالصوفية عالم سحري، يطرقها أبو العلا في خط سردي بسيط متنقلا بين الواقع والخيال، الأبعاد السياسية والرمزية للحياة خاصة في السودان في مناطق لم نرها من قبل.
“سنونو كابول”: فيلم تحريكي من وحي رواية الجزائري ياسمينة خضرا، ومخرجيه زابو بريتمان وإيليا غوبي-ميفيلت، والذي يغوص في بيئة مغلقة تحت حكم طالبان، حيث النساء والجميع يعيش في سجن مفتوح، في معالجة درامية سلسلة دون عنف نفسي مبالغ به في قصة بسيطة تبحث عن بصيص أمل في حكم ديكتاتوري.
زوجان شابان، حارس سجن وزوجة على فراش الموت، الحب والأمل والرغبة في العيش بحرية، كلها معا في فيلم واحد، حيث يظهر همجية نظام طالبان التي تغتال الهوية الفردية والعلم وتحاول فرض أفكارها الرجعية.
يظهر “سنونو كابول” قدرة الرسوم التحريكية على تصوير عوالم مختلفة عنا بطرق مبتكرة وبجمالية عميقة لا تفسد الخطوط الأساسية للقصة نفسها، وعكس بيئة الرعب التي فرضها ذلك النظام الإرهابي.
بلغة بسيطة نعيش ذلك الصراع، وحركة المقاومة التي تعكس الرغبة في الأمل والحياة بعيدا عن كل ذلك القمع في أفغانستان.
وبالطبع، هذه ليست الأفلام المفضلة الوحيدة، فلكل فيلم حكاية وسحر خاص به، وجميعها تستحق الإشادة بها فهي خيارات ذكية منتقاة بعناية من قبل فريق البرمجة الخاص بدءا من مديره الفني، حنا عطا الله، إلى جانب مديرة المهرجان ندى دوماني.
ماذا بعد هذه الدورة؟
الأمر المؤكد أن هذه الدورة أسّست لحدث سيغدو سنويا، فبعد أن كان حلما بدأ بالإعلان عنه في مهرجان كان السينمائي في عام 2017، اليوم أصبح واقعا ويتطلب عملا أكثر.
ولكن الحقيقة هي أن فريق المهرجان أثبت على أنه يمكن الخروج بنتيجة مرضية وناجحة بالرغم من الإمكانيات المحدودة التي وفرها الداعمون للمهرجان والشراكة بين القطاع الخاص والمهرجان والتي نبعت من الإيمان بدور السينما وثقافتها في المجتمع وأثرها العميق والجميل على الإنسانية.
وعليه سيكون هناك بالتأكيد في الدورة المقبلة تفاعلا مباشرا بين عشاق السينما وصناعها، من شباب وخبراء عالميين، وهو ما تحرص عليه إدارة المهرجان وتترجم هدفه الرئيسي في دعم المخرجين الشباب المحليين والعرب والتشبيك لخلق جو سينمائي إبداعي وفتح المجال لهم لرواية قصصهم.
وهذا يعني أن ما ننتظره هو رؤية مختلفة، صالات سينما متنوعة، حضور جماهيري أكبر، وبالطبع ضيوف أكثر، فالانطلاقة والتفاعل الحقيقي سيكونان في الدورة الثانية وفي تجربة غضّة لمهرجان يتميز بثيمته وبالطبع سيكون مشجعا لكل المخرجين الجدد ليشاركوا به.
في العام المقبل، تستعد السجادة الحمراء لاستقبال مواهب شابة من كل مكان، حيث الأحلام تتحقق، والقصص التي ستروى ستتم مشاهدتها والاستماع لها، حيث العالم أفضل وأجمل بحضور السينما في العاصمة العمّانية التي تحتضن بتاريخها الفن والمواهب وترسم المستقبل.
ففي السينما حياة…وهكذا هي مدينتنا.
*اسراء الردايدة صحافية أردنية تكتب في مجال الفن والسينما في صحيفة الغد اليومية، حاصلة على شهادة البكالوريوس في الصحافة والاعلام وأدب اللغة الإنجليزية من جامعة اليرموك.
نشرت الردايدة مقالات تحليلية سينمائية ومقابلات مع نجوم عرب وعالميين من خلال تغطيتها لمهرجانات سينمائية محلية وإقليمية ودولية.