السينما المضادة – النسوية بالفيلم

01/10/2020
الصورة
1
Author
أميمة حموري

-“أنا مسامحِك -بس على شرط- تسيبيني أنا أرفع القضايا وتقفلي مكتبك وتقعدي في بيتك تستنيني لحد ما آجي أخطبك”

-“بقى عايزني أقفل المكتب؟!”

-“يا فاطمة أنا ما بطعنش في كفاءتك، لكن المهنة دي ما تناسبش وحدة زيك”

في فيلم (الأستاذة فاطمة) ١٩٥٢، يتخرّج كل من فاطمة وعادل من كلية الحقوق. مسيرة عادل في مجال المحاماة تتقدّم وتزدهر، أما فاطمة المحاميّة الزميلة فيبدو أن مسيرتها ستكون متعثرة ومليئة بالعقبات! فإلى جانب رفض المجتمع، تجد فاطمة نفسها في مواجهة حبيبها عادل الذي يعتقد أن عملها غير مناسب للنساء.

بعد خمسين عاماً – في ٢٠٠٤ تحديداً – يتكرر حوار مشابه في الفيلم الأمريكي (Million Dollar Baby)

-“ظننت أنك قد تكون مهتماً بتدريبي للملاكمة”

-“أنا لا أدرب الفتيات”

-“ربما عليك ذلك، من يراني ألاكم يقول أني صلبة وقادرة على القتال”

-“يا صغيرة، القوة ليست كافية”

الفيلم يحكي قصة ماچي التي تحاول الصعود في مهنة الملاكمة لتفاجَأ بكمٍّ غير قليل من الحواجز.

(الأستاذة فاطمة) و(Million Dollar Baby) فيلمان يتناولان قضية خروج المرأة عن الدور النمطيّ الذي يُحدَّد لها منذ نعومة أظافرها. كل من فاطمة وماچي تمارسان مهنة تعد حكراً على الرجل -على الأقل في وقت إنتاج الفيلم- وكلتاهما تُحاربان حتى تُثبتا أهليتهما لممارسة المهنة. كِلا الفيلمين يعدّان نسويّين! ولكن، ما الذي يجعل منهما فيلماً نسويّاً؟ وماذا يعني أصلاً التعبير “نسويّ”؟ وما الذي يُميّز فيلماً نسويّاً عن غيره؟ هل هناك معايير واضحة لتحديد ذلك؟ وهل ناقشت الأفلام النسويّة الغربيّة نفس القضايا وهَدَفت إلى تخطي نفس الحواجز في نظيرتها العربيّة؟

Image removed.

ليس هناك إجماعٌ على بدايات النسويّة، والبعض يُرجع أصولها إلى اليونان القديمة. ولكن، مما لا شك فيه أن بداية الحركة النسويّة كما نعرفُها اليوم، لم تكن حتى نهاية القرن التاسع عشر، ولم تحصل دفعةً واحدة بل على ثلاث مراحل:

 المرحلة الأولى: كانت في نهاية القرن التاسع عشر، وكان الهدف منها فتح المجال للنّساء للاقتراع والمشاركة بالحياة السياسية.

 المرحلة الثانية: بدأت في الستينيات واستمرت حتى التسعينيات، كان الهدف منها ضمان المساواة الاجتماعيّة على اختلاف الجنس والعِرق والطبقة الاجتماعيّة.

المرحلة الثالثة: بدأت في منتصف التسعينيات، وهنا اتسعت دائرة المطالب لتشمل الأقليّات الجنسيّة، والهدف منها؛ كسر كل الحواجز، وكل ما هو متعارف عليه، ورفض أي مصطلحات من شأنها الحد من العالميّة وتعدد الثقافات والهويّة الجنسيّة والهويّة الجندريّة وما إلى ذلك، والتأكيد على أن جميع الاختلافات يُحتفى بها وعلى أنه لا يوجد قواعد أو ثوابت.

إذاً، كما هو واضح تغيَّر مفهوم النسويّة وأهدافها دائماً ليُواكب التطورات من حوله، وعلى الأغلب أنه سيتغيّر أيضاً في المستقبل وسيجدّد الخطاب على الدّوام. وهنا لا بد من التأكيد على أن موضوع النسويّة موضوع ضخم ومتشعّب كما أنه شائك وتحيط به الكثير من الاختلافات والتناقضات، وأن هذه محاولة فقط، لعرض القضايا الرئيسيّة التي تعالجها النسويّة ومحاولة ربطها بالفيلم. وعليه، فإن ما يهمنا من النسويّة هنا، هو المتعلق بضمان حقوق المرأة في جميع مناحي الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، والتي تهدف في جوهرها إلى التمكين الجمعي للنّساء.

للفيلم تأثيرٌ هائلٌ على المجتمع بمختلف أفراده وهذا ما أصبح جليّاً للنسويّات منذ ستينيات القرن الماضي. “ما يهُم هو ما تُثيره البطلة، أو بالأحرى ما تُمثّله. هي الشخص أو بالأحرى الحب أو الخوف الذي تُثيره في البطل، أو لِنقُل الاهتمام الذي يشعر به اتجاهها، وهذا هو ما يجعل البطل يتصرف كما يتصرف. المرأة بحد ذاتها ليس لها أي أهميّة تُذكر سوى ما تثيره في البطل”. كانت مقالة لورا مالڤي التي نُشرت في عام ١٩٧٥ “المتعة البصريّة والسينما السرديّة” بداية التقاطع بين نظريّة الفيلم والتحليل النفسي والنسويّة. في مقالتها صاغت مالڤي مصطلح “Male Gaze” أو “النظرة الذكوريّة” وأصبح يُطلق هذا المصطلح على فعل “تشييء” المرأة لتتناسب مع رغبات وهواجس المُشاهد الذكر. وتذهب لورا لتؤكد أن المرأة في الفيلم تُعرض في أدوار سلبية تضمن فقط المتعة البصريّة. أما غيرها من المحللين، فقد تابعوا الصور النمطيّة التي تُحيط بالنساء وكيفيّة عرضها بالسينما، وكيف يُسهم ذلك بتعزيز التمييز القائم على الجنس واضطهاد المرأة. أدّى كل هذا إلى ظُهور دعوات لتأسيس”Counter Cinema”  أو “سينما مضادة”، سينما قادرة على عرض المرأة الحقيقية وتُواجه التحيز والتضليل المُمنهج لتهميش المرأة، سينما من النساء للنساء.

عالجت السينما النسويّة الكثير من القضايا التي هُمشت لوقت طويل، وأصبح بالإمكان عرض المرأة خارج إطار علاقتها بالرجل، وفُتحت الآفاق أمام قصص عميقة تُظهر جانباً من المرأة لم نراه سابقاً على الشاشة، جانب المرأة الصديقة والأم والأخت والابنة، وأصبح واضحاً أن قضية الرجل في حياة المرأة هي قضية ثانوية وليست القضية الأساسية التي تتمحور حولها حياتها. حطّمت السينما النسوية الصندوق وثارت على الأعراف بعرض جوانب من حياة المرأة سُكت عنها طويلاً، وشعرت النساء للمرة الأولى أنّهن لسن وحيدات وأنّ ما يمرُرن به عالميّ، تمر به جميع نساء الأرض بشكلٍ شبه يومي وإن كان بصورٍ مختلفة.

ليس ذلك فقط! بل ساهمت السينما النسويّة في بعض البلاد في تغيير القوانين المتحيّزة لصالح الذكر. فمثلاً في عام١٩٧٥، عُرض الفيلم المصري (أريد حلّاً) للكاتبة “حُسن شاه” والذي يحكي قصة دُريّة التي تطلب الطلاق من زوجها بعد خياناته المتكررة ومعاملته السيئة لها.  يرفض الزوج الطلاق فتبدأ رحلة دريّة في المحاكم لتكتشف كمية غير قليلة من الثغرات في قانون وُضع ليخدم الرجل ويُمعن في التنكيل بالمرأة. عَرض الفيلم بشكل مباشر ودون فلترة، الفكر الذكوري الذي يُسيطر على المحاكم الشرعيّة، وكشف للمشاهدين كيف يتم التّلاعب بمصطلحات “كالمرأة الناشر” و”حُكم الطاعة” لتخرج المرأة دائماً في هذه المعادلة خاسرة ومظلومة.  بالطبع هوجم الفيلم بشراسة من جماعة الإخوان المسلمين واتهموه بالخروج عن الشريعة الإسلامية، ولكن في المقابل أصبح بالإمكان مناقشة ما كان سابقاً من المسلّمات! ووُضعت القوانين بثغراتها وتحيّزها للرجل تحت المجهر حتى تم تغيير قانون الأحوال الشخصية في عام ١٩٧٩.

في عام ١٩٩١، عرض الفيلم الأمريكي (Thelma & Louise) أيضاً القوانين المجحفة بحق المرأة أمام المُشاهد. في الفيلم، تكون ثيلما على وشك التعرض للاغتصاب حين تتدخل لويز وتنقذها بإطلاق النار على المُعتدي. أول ما يخطر ببال ثيلما بعد ذلك هو اللُجوء للشرطة فهما كانتا تدافعان عن نفسيهما ليس إلّا! لترد لويز:” كنتما ترقصان متلاصقين والمئات شاهدوكما معاً، نحن لا نعيش في هذا النوع من العالم”. هنا طرحت لويز مفهومي “الجنس بالتراضي” و “الاغتصاب” للنقاش، وفي مشاهد أخرى أعادت القوانين على مسامع المشاهدين، نفس القوانين التي تضع مسؤوليّة إثبات الاغتصاب على عاتق الأنثى، فتقف مع الجاني “الرجل” ضد الضحية “المرأة”، فالمرأة دائماً مُتهمة إلى أن تُثبت صحة ادعائها وأنها لم تكن من سببت الاغتصاب لنفسها!!! ثيلما تعيد هذه القوانين مرة واثنتين على المشاهد حتى يُدرك ازدواجية القانون وكيف يجرّ المرأة جرّاً للتلاعب به حتى تنجو من ظلمٍ وشيك.

Image removed.

وهنا يأتي الفيلم المصري (الحرام)، الذي عُرض في عام ١٩٦٥، ليناقش الاغتصاب أيضاً ولكن في مجتمع آخر. في الفيلم تتعرض عزيزة للاغتصاب وتحمل، ويكون هاجسها إخفاء هذا الحمل خاصةً وأنها بحاجة للعمل حتى تُعيل نفسها وأولادها وزوجها المريض. تتمكن من إخفاء الحمل حتى لا تتعرض للفضيحة.  بعد الولادة تقتل عزيزة وليدها رغماً عنها وتظن بأنها أفلتت من العار ولكن الأجل لا يمهلها وتموت بحمى النفاس. الفيلم يضع المُشاهد في مواجهة السؤال: ما هو الحرام وما هو الحلال؟ ويضع أولويات المجتمع العربي التي رسمتها الموروثات موضع التشكيك. ويعرض حجم المعاناة التي على المرأة أن تواجهها باسم العادات والتقاليد. في (دعاء الكروان) 1959 مثلاً، لم تتمكن الأخت من الفرار من حكم الموت الذي نفذه عليه خالها حفاظاً على شرفه ودرءاً للخزي، مرتكباً ما يسمى ب “جريمة الشرف”، ولم يشفع لها أنها كانت “طفلة غشيمة” وقعت في حب “زير نساء” أفلت من العقاب فقط لأنه رجل. مرة أخرى كشفت هذه الأفلام عن الخذلان الذي تتعرض له النساء بفعل منظومة قائمة على خدمة جنس على حساب الآخر.

 من القضايا التي حاولت السينما المضادة التطرق لها أيضاً تعدّد الزوجات، في الفيلم الصيني (Raise the Red Lantern)، ١٩٩١، تُقدم زوجة الأب على تزويج سونغليان إلى رجلٍ ثري له ثلاث نساء، تدور أحداث الفيلم في عشرينيات القرن الماضي عندما كان تعدد الزوجات مسموحاً في الصين. يُصور الفيلم كمية القهر الذي تعيشه النساء حين تضطر لمشاركة زوجها مع أخريات كما يذهب أبعد من ذلك حين يكشف عن المنافسة الشرسة التي تجد النساء أنفسهن وقعن فيها في محاولةٍ لكسب ودّ الزوج، فتصبح حياتهن لا معنى لها سوى إرضاء الرجل على حساب سلامتهن النفسية.

Image removed.

مثّلت السينما على مدى عقود الثقافة الذكورية، وخذلت الكثير من النساء بمن فيهن المثليّات.  فصُورت الشخصيات المثلية على أنهن ضحايا لمرض عقلي يدفعهن لارتكاب الجرائم أو شخصيات بائسة وكئيبة تلجأ للانتحار للتخلص من بؤسها، أو عُرضت بصورة هزلية وساخرة، مما أسهم في خلق صورة نمطية غير صحيحة عن المثلية الجنسية وبالتالي تعزيز اضطهاد المثليّات، وعلى الرغم من أن هذا تغيّر في الأفلام الغربية وأصبح بالإمكان مشاهدة أفلام عن شخصية رئيسية مثليّة التوجه الجنسي تمارس حياة طبيعية، قد تقع بالحب أو تكون مهووسة بعملها أو تقرر تبني طفلٍ. إلا أن المثليّة في الأفلام العربيّة ما زالت تعدّ من المحرمات والتطرّق لها في غير هذا النّطاق يُعتبر جرأة وتعديّاً على الأعراف والثوابت، وفيه محاولة لنشر “الرذيلة” في المجتمع!

الأمثلة السابقة من الأفلام، عالجت قضايا تُعنى بالدرجة الأولى بالمرأة وحاولت إيصال صوت النساء غير المسموع إلى أبعد المسافات، وهذا هو ما يُميّز السينما النسوية، وليس أن يكون الإخراج لامرأة أو السيناريو لامرأة أو أن تكون الشخصية الرئيسية امرأة أو أن يكون فيه عدداً معيناً من النساء، وغيرها الكثير من المعايير التي قُدّمت على أنها الإثبات أو الحُجة على أن فيلماً ما “نسويّاً” وينتمي للسينما المضادة، فقد تتوفر كل هذه المعايير في فيلم ما وهو في جوهره يشيء ويعزز اضطهاد المرأة.  فالكثير من النساء قدمنّ أعمالاً تكرس ثقافة دونيّة المرأة وتساهم في ظلمها ولكن في المقابل، قدّم الكثير من الرجال أعمالاً لصالح المرأة وقضيّتها، كالعديد من أفلام المخرج المصري هنري بركات.

السينما النّسوية كانت محاولة المرأة لتثبت وجودها، وعلى اختلاف مصدرها سواء كانت عربيّة أو أمريكيّة أو أوروبيّة أو آسيويّة أو إفريقيّة، شكّلت السينما منبراً لطالما بحثت عنه المرأة لعرض قضاياها على اختلافها، ومنصةً تعبر فيها عن صراعاتها كأنثى سواء مع نفسها أو مع مجتمعها.

اليوم على النّساء أن يُدركنّ أن السينما هي إحدى سُبل خلاصهن. نحن بحاجة للمزيد من القصص، للمزيد من “أريد حلاً” لتغيير القوانين المجحفة بحق المرأة، للمزيد من القضايا المسكوت عنها لتصل إلى كل مكان، اليوم على النّساء أن يتّخذن الأفلام سبيلاً للمحاربة وانتزاع حقوقهن.  


*أميمة أسعد حموري كاتبة سيناريو مستقلة مقيمة في عمان، حاصلة على شهادة الماجيستير في الفنون السينمائية من معهد البحر الأحمر في الأردن. كتبت العديد من سيناريوهات الأفلام القصيرة وسيناريو لفيلم طويل “ثلج”. 


الآراء والأفكار المطروحة في المقالات تعكس رأي كاتبها أو كاتبتها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي “توب لاين” و/أو الهيئة الملكية الأردنية للأفلام