هل تنتهي السّينما مع نهاية التّاريخ؟

02/06/2020
الصورة
1
Author
بشار سليمان عباس

أربعة أسباب ربّما تدفع صنّاع الأفلام للاهتمام بفلسفة فرانسيس فوكوياما؛ الأوّل هو أنّ النموذج “الديمقراطي-الليبرالي” الّذي تقترحه نظريّته عن نهاية التّاريخ يقوم في نفس البلاد الّتي تُعرف بالنّتاج السّينمائي الأكثر رواجاً وتأثيراً عبر العالم. الثّاني هو تداخل العلاقة بين الفنون وبين التّاريخ، حيث يُنظر إلى الكثير من الأعمال الفنيّة بوصفها وثائق تاريخيّة، مثالاً على ذلك مأساة غورنيكا والهجوم النّازي على البلدة الإسبانيّة. فقد عرفه التّاريخ – بالدّرجة الأولى- من خلال لوحة بيكاسو. وبنفس الطّريقة يمكننا النظر إلى بقيّة الفنون بوصفها تجارب ومعطيات تاريخيّة، فكيف الحال إذاً مع الفنّ السّابع الّذي يستطيع أن يقدّم الفنون الستّة الأخرى -أحدها أو جميعها- معاً؟

السبب الثّالث، هو التأثير الّذي أحدثته السّينما على الفنون الدراميّة والقصصيّة، فقد اضطر المسرح للحفاظ على وجوده أمام تهديد الفيلم إلى التّركيز على خاصيّته الأساسيّة، وهي الحضور المباشر للممثّل، بينما اضطر الرّوائيّون إلى التّجديد في طرائق السّرد بعد أن سحبت السّينما البساط من تحت الرواية. التّغيّر العميق والحاد الذي أحدثته السينما على غيرها من الفنون يجعلها المؤثّر الأكبر على تطوّر تاريخ الفنّ، والّذي هو جزء من التّاريخ بمفهومه العريض.

السّبب الرّابع تقني صرف، ففي مرحلتي الكتابة والإخراج، مروراً بالدّيكور والملابس والإكسسوار والأداء، لا بدّ من الاعتناء “بالظروف المعطاة “Given Circumstances والتي هي المكان والزمان والمُحيط والعلاقات الشّخصيّة وجميعها تفاصيل تاريخيّة.

إنّ نظريّة نهاية التّاريخ تفترض وجود تهديد من النظام العالمي الجديد على فنّ القَصَص الّذي تقوم عليه السّينما، فالمجتمع القائم على الدّيمقراطيّة والعدالة، لن يستطيع تزويد القصّة الفيلميّة بمكوّناتها الجيّدة لأنّه يفتقر إلى الصّراع وبالتالي الحبكة، وستكون “الشخصيّة المضادّة Antagonist  ” محدودة الخيارات القصصيّة بسبب محدوديّة احتمالات الشرّ، فالقانون فوق الجميع، ما يعني أن “شخصيّة البطل Protagonist”  ستظهر ضعيفة أيضاً لأنّ كتابة الشخصيّة الرئيسية بشكل جيّد تتطلّب كتابة الشخصيّة المضادّة بشكل جيّد أيضاً، فما الحلّ إذاً؟

موضوعنا عن علاقة التّاريخ بالفنّ، فلذلك من المُجدي تأمّل أوّل تصور فلسفي متكامل عن نفس الأمر في التّاريخ القديم. قام “النموذج الليبرالي – الديمقراطي” منذ بدايات عصر التنوير على إحياء وتطوير مكتسبات الحضارة اليونانيّة-الرّومانيّة، وهي رُباعيّة الديمقراطيّة والمُواطنة والقانون المدنيّ والدّراما. فالديمقراطيّة بدأتْ في اليونان القديمة واستمرّت في الكونغرس الرّوماني، وامتدت كقاعدة تنطلق منها القوانين الحديثة ومفهوم المواطنة. أما المسارح العملاقة فقد رسمت حدود تلك الإمبراطورية. تلك الرباعيّة – في حقيقة الأمر- هي أهم محدّدات “النموذج الليبرالي-الدّيمقراطي” ويمكننا اليوم اعتبار هوليوود كامتداد طبيعي لدور المدرّجات الرّومانيّة في ذلك الزّمن.  

عبر التاريخ، طرحَ الفلاسفة وجهات نظرهم في الدراما. فعلى سبيل المثال، توصّل أفلاطون في مؤلفه “الجمهورية” إلى تأثير الدراما السلبي على جمهوريّته المتخيّلة، بل إنه عارض الدراما وطالب بإلغائها بغية الوصول لعدالة اجتماعية أكبر. ويقول في هذا الصدد: “في مسرحيّاتكم يفرح الأشرار، ويحزن الأخيار، وهذا لا نقبل به في الجمهورية”. رأيه ينطوي على بديهة خطيرة؛ ما يحدث أمام الجمهور على الخشبة سوف ينتقل حتماً إلى الواقع فالجمهور يقلّد ويُحاكي ما يراه!

أمّا تلميذه أرسطو – مؤلّف “فنّ الشّعر”، والّذي لم يزل يُدرّس في مناهج جامعات الفيلم الأمريكيّة -يقترح حلّاً للمعضلة: “إنّ الدراما من خلال إثارة عاطفتيّ الخوف والشّفقة وتقمّص الجمهور لمشاعر الشخصيّات، تُحقق مبدأ التّطهيرCatharsis  لدى الجمهور، فيتخلّص من مشاعره السّلبيّة”. السّؤال الّذي يقترحه ذلك النّقاش القديم هو لماذا كان من الضروري في أوّل تصوّر فلسفيّ عن الجمهوريّة الفاضلة أن تكون الدراما حاضرة وبقوّة في ذلك النّقاش؟ هذا يُشير إلى أنّ الدراما مكوّن أساسي وجوهري من مكوّنات الرباعية ولا تقلّ أهميّةً عن أحدها.

إذا كانت الرّواية كما يقول الفيلسوف الهنغاري جيورجي لوكاش  (György Lukács) هي ملحمة الطبقة البرجوازية التي استعملتها كسلاح في صراعها ضدّ القيم المتوارثة عن العصور الوسطى، فإنّ الفيلم – بوصفه وريثاً لفنّ الرّواية – لا بدّ أن يكون قد ورث أيضاً مهاماً من نفس النّوع.

اليوم، تبدو السينما ملتزمة بمبدأ نظرية نهاية التّاريخ وذلك في تعاملها مع المراحل التّاريخيّة بطريقة خاصّة: الماضي، الحاضر، المستقبل.  ويُمكن المقارنة بين فيلمين يكشفان بوضوح هذا التّعامل، وهما: كازابلانكا (مايكل كورتيز، 1942)، وآلايدAllied  ( روبرت زيميكس، 2016). ومبرّر المقارنة هو أنّهما يتناولان نفس الفترة، في نفس المكان ونفس الظروف التاريخيّة للحرب العالميّة الثّانية. الفارق الجوهري بينهما – بمعزل عن نوع كلّ منهما – يتّضح في سنة الصّنع، فكازابلانكا صُنع وعُرض عام 1942 عن قصة تحدث في عام 1941، أي قبل سنة أو بضعة أشهر من تاريخ العرض. إذاً هناك تطابق بين زمن صناعة الفيلم، وزمن أحداث القصّة التي يعرضها وهو الحرب العالميّة الثّانية.

ولكن في فيلم آلايد، يعود صنّاع الفيلم إلى زمن سابق، ويقومون بتقديمه ك “حاضر” وفق بديهة سينمائية وقصصيّة وهي أنّ كل شيء يحدث في الشّاشة أو في القصّة أثناء المشاهدة إنّما يحدث “الآن”. نجح الفيلمان بمنح شعور للجمهور بأنّه يُشاهد حدثاً يقع الآن بغض النظر إذا كان منذ سنة أو سبعة عقود.

انطلاقا من مبدأ أنّ كل ما يحدث في الشّاشة يحدث الآن، فإنّ الجمهور بعد المشاهدة يُدرك العمل ككل بأنّه أصبح من الماضي، ويُلاحظ بعد تجربة المشاهدة أنّ العالم الواقعي المحيط به كحاضر هو أيضاً زمن مختلف عن ذلك الدرامي في الشّاشة. زمنان كلاهما يختبرهما الجمهور، واحد في الشّاشة وآخر حوله في الواقع، وكلاهما حقيقي يوازي أحدهما الآخر، ولكنّ الجمهور يعيش في واحدٍ منهما ويتأمّل الآخر من خلال السّينما ويعيشه مؤقّتاً.

ولهذا نجح فيلم كازابلانكا بتحقيق مبدأ “الإقصاء الزّمني” للحرب العالميّة الثّانية، لأن الجمهور إذا كان يستطيع مشاهدة تفاصيل مرتبطة بها وأخذ موقف إدراك وتأمّل لها، فهذا يجعلها في الشاشة كما لو أنها على طاولة بحث. فُيمنح للجمهور مشاعر بالتفوق والسيطرة عليها وفرصة أفضل لفهمها،  ولكن بعد انتهاء الفيلم أو مغادرة الصالة، نستطيع أخذ موقف نقدي منها وقد صارتْ ماضياً.  فقد أصبحنا على مسافة تُدعى “مسافة التعرّف”، فسواء كانت القصّة منذ سنة أو عقود فإن الفوارق بين زمننا الواقعي وزمن حدوث القصّة تكون شبه معدومة بالنسبة للجمهور وهذا يجعلها “ماضياً” وحسب، بصرف النظر إذا كان بعيداً أو قريباً. وذلك يقترح دوافعاً كبيرة ل “الترقّي” وفق بديهيّة: نحن الآن في مستقبل تلك القصّة، فيجب أن نكون أفضل، لأنّ المستقبل – بديهياً – ينطوي على احتمالات الترقّي، فنتأمّل بذلك حاضرنا كما لو كان هو مستقبلنا.

الأمر يتكرّر في تجارب أخرى لا سبيل لحصرها، منها فيلم ذهب مع الرّيح (فيكتور فليمنغ)، الإنتاج والعرض في 1939 أمّا القصّة فتحدث في 1861. الحرب العالميّة الثّانية على الأبواب أثناء صناعة وعرض الفيلم في حين أنّ قصته تتناول الحرب الأهليّة الأمريكيّة، فيكون الفيلم بمثابة تأمّل لمعطيات حرب وشيكة وحرب سابقة.  فهل جاء الفيلم بجديد في نزعته للتعامل مع الحاضر على أنه مستقبل؟ ومع الماضي على أنه حاضر؟ فعلى سبيل المثال، الإسكندر المقدوني في حروبه، كان يحتفظ معه بالإلياذة التي تكلمت عن حرب وقعت قبله بخمسة قرون، لقد كانت فرصة له لتأمّل الحاضر في ضوء أخطاء الماضي.

العام الماضي 2019 ظهرتْ ثلاثة أعمال أخذت نصيباً كبيراً من الاهتمام النّقدي، تميل جميعها إلى عدم المساس بالزمن الحاضر؛ فيلم الجوكر (تود فيليبس) والّذي يقترح عام 1981 كتاريخ للقصّة، والرجل الإيرلندي (سكورسيزي) ويتعامل مع عدة أزمنة بين أربعينات إلى سبعينات القرن الماضي، وفيلم 1917 (سام ميندس) والّذي يتناول نفس التاريخ الّذي يقترحه اسمه.

الأعمال الثلاثة تشترك بمقولات كُبرى وتتضمّن صراعات تاريخية وفكريّة، ولكنّها لا تُنسب إلى الزّمن الحاضر الّذي يعيش فيه الجمهور. فماذا عن الزّمن الحاضر، هل هو غائب عن السّينما؟ تقوم السينما بتقديم الزمن الحاضر ولكن بعد عمليّة انتقاء لطبيعة الصّراع، فلا يكون تاريخيّاً أو أيديولوجيّاً أو على مستوى المقولات الكُبرى، فيظهر الصّراع في هذا الزّمن الحاضر الّذي يعيش فيه الجمهور بطريقة طارئة، كخلل على هامش المجتمع أو حدث نافر لا يعدو الخطأ الجانبي الذي يسهل إصلاحه وبسرعة، عبراللجوء لأنواع Genres بعيدة عن الواقعيّة لضمان عدم الرغبة بالتأثّر والمحاكاة، مثل أفلام الرعب والخيال العلمي والجريمة أو التحرّي والحركة والجاسوسيّة والرومانسية الكوميدية، هذه الأنواع تقدّم الزمن الحاضر في ملامح ومظاهر شكليّة غير جوهريّة، مثل السّيّارات واللهجات ومحطات الميترو والمطارات والتكنولوجيا وأنماط العيش والأطعمة، ولكنّه مع شدّة إفراط ظهوره يكون في أوج غيابه وانعدامه، ذلك أنّ الموضوعة أو الفكرة الرئيسةThe Theme  قد شطبت الزمن الحاضر، فهو لا يعدو عناصر ديكورية في هذه الأنواع، وهكذا يتحقّق معاً -وفي آن- المطلب الأفلاطونيّ بإلغاء الدّراما، مخافة أن يُصبح الشّرّ الّذي تقترحه مثلاً أعلى وموضوعاً للمحاكاة من قبَل المجتمع، فتبقى منتمية إلى زمن ماضٍ آخر كخطأ سابق ارتكبته البشرية في الماضي، وفي نفس الوقت يتحقّق التّطهير الأرسطيّ بأن يقتصر الزمن الحاضر الواقعي -عندما يُعرض الشرّ والصّراع- على أنواع بعيدة عن الواقعيّة المفرطة ذات المقولات الكبرى ومنتمية إلى أخطاء فرديّة، غير مجتمعيّة أو تاريخيّة.

سؤال إذا ما كانت السّينما ستنتهي مع نهاية التّاريخ يمكن أن تكون إجابته بسهولة “نعم”، إذا افترضنا أنّها هي وسائر الفنون مجرّد انعكاس للواقع، ولكن عند النّظر إليها كواقع آخر مُوازٍ، كمحرّك وموجّه وفنّ يقترح المُثل والقيم للجمهور، ويمتلك دوراً حاسماً في صناعة الواقع والتّاريخ، فإنّه من الأفضل أن نسأل “كيف وإلى أيّ درجة ساهمت السّينما في نظرية نهاية التّاريخ؟” فهي الّتي أدخلتْ البشريّة في عصر الفنّ الجماهيري الّذي لا حدود ولا ثقافة ولا لغة ولا زمن ولا طبقة تقف في وجهه.  إنّ تعميم الفنّ جماهيريا هو المُساهم الأكبر في الوصول إلى ما تقترحه نظريّة فوكوياما.


* بشّار سليمان عبّاس حامل ماجيستر من معهد البحر الأحمر للفنون السّينمائيّة – الأردن. لديه مساهمات عديدة في صحف عربية. أخرج العديد من الأفلام القصيرة وكتب عدة مسلسلات (“ترجمان الأشواق”، “صانع الأحلام”).