حكاية النقد السينمائي في الصحافة الأردنية
أخذ النقد السينمائي في العالم مكانة لائقة في فضاءات الإبداع الانساني، منذ وقت وجيز، وهو عمر ولادة الفن السينمائي بحد ذاته في عام 1895، وذلك عندما أصبحت الحاجة ملحّة لكثير من عشاق هذا الفن الجديد وروّاد الصالات للتعرف على حكايات وقصص الأفلام والنجوم. وقد غدت ظاهرة انتشار النقد السينمائي سمة واضحة في الصحافة العالمية لغايات تقديم تغطيات ومتابعات للقارئ على نحو يشبع المتلقي بوجبة جديدة من الصفحات الترفيهية تطلعا لتوسيع ذائقته بلون تعبيري حديث سمي “الفن السابع”.
تعددت الرؤى والأفكار التي تتحكم بتغطية إشهار الأفلام الجديدة في بدايات فجر السينما، فقد دأبت اقلام النقاد على تسليط الضوء على محاور أحداث قصة الفيلم وسمات شخوصه، إزاء تغطيات خبرية ضيّقة تدور أغلبها حول سير النجوم ومشاكلهم ورحلة صعودهم وانطفائهم، وصولاً إلى رؤى منهجية أشمل وأعمق تمتلك أحاسيس فطنة باللغة مليئة بأفكار فلسفية وتعابير ذات أبعاد جمالية، مثلما تستوحي ببراعة من أسئلة الحياة اليومية هموماً وآمالاً إنسانية رحبة.
أما في الصحافة الأردنية، فقد كانت أولى بشائر النقد السينمائي يوم الثالث من شهر شباط سنة 1950، وذلك عندما صدر العدد الأول من مجلة “الأردن الجديد”، وهي مجلة أسبوعية ثقافية جامعة، كان صاحب امتياز إصدارها، ورئيس تحريرها عبد الرحمن الكردي. غير أن هذه المجلة لم يُقَيَّض لها الاستمرار طويلاً، لأسباب لا نعرفها، فقد صدر منها ستة عشر عدداً فقط، حملت الأعداد الثلاثة الأخيرة منها اسم محمد الكردي صاحبَ الامتياز، والمحامي راتب دروزة رئيساً للتحرير.
البدايات
يلحظ المتصفّح لأعداد هذه المجلة اهتمامها بالفن السابع في فترة مبكرة نسبياً من تاريخ الصحافة الأردنية، حيث خصّصت المجلة حيّزاً واسعاً في صفحاتها للفنون بشكل عام من مسرح وموسيقى وعروض باليه، إلخ. إلى جانب زاوية ثابتة حملت عنوان (نقد الأفلام) تارة و(السينما) تارة أخرى، موقعة عادة باسم (ع. سماوي)، واللافت أن هذا الناقد كان يكتب على نمط يقترب من اسس المتابعة النقدية التي تنشد الوقوف على عناصر ومفردات جمالية وفكرية مستمدة من عروض صالات السينما المحلية آنذاك.
المدهش في كتابة الناقد (ع. سماوي) عن الأفلام، أنه كان يدرج في موضوعاته اسم الفيلم، والممثلين فيه، ثم المخرج، إضافة إلى وضع الفيلم (موضوع الكتابة) ضمن سياق باقي أعمال المخرج، من حيث الأهمية. وهذا ما كانت تفتقده الكتابة السينمائية في الماضي، وما نجده لدى (ع. سماوي) كتقليد راسخ، وبديهية أولية في الكتابة، في زمن كان الاهتمام فيه منصبّاً على أخبار النجوم وحياتهم الخاصّة.
ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر نموذجا من مقالاته يبين المستوى المتميّز لكتاباته: وهو نقد لللفيلم المصري (العيش والملح) للمخرج حسين فوزي وكان قد ظهر في مقالته بالعدد الحادي عشر من المجلة، بتاريخ 28 نيسان 1950. يبدأ (ع. سماوي) مقاله كالتالي:
“سعد عبد الوهاب، شاب تخرّج من الجامعة، وافتتح مكتباً للمحاسبة، يلتقي بفتاة تحبه، وتتوصل (من أجله) بجمالها عند أحد الأثرياء ليلحقه بوظيفة مقابل الثمن.. ويلتحق الشاب بالعمل، ويجعله إخلاصه فيه وإخلاص الفتاة صديقين للثري بعد أن استطاعا أن ينْزعا عن نفسه نواياه السيئة”.
ويتابع سماوي: “كانت نعيمة عاكف وفي أول أدوارها روح (الفلم)، ولولاها لكان سقوطه محتماً، فقد كانت خفيفة برقصاتها وتمثيلها وصوتها، وكان صوت سعد عبد الوهاب جميلاً، ألحانه موفقة لولا أن ميكرفون سينما (الفيومي) أضاع علينا هذه اللذة”…” الفلم مليء بالقفشات، وقد أعجبنا خصوصاً الأوبريت التي قدّم ألحانها علي فراج، والقصة هي التي تتكرّر دائماً في الأفلام المصرية، وقد سئمنا هذا اللون الذي لا تجديد فيه”.
نلاحظ هنا أن الناقد (ع. سماوي) قد التقط جوانب من الصورة النمطية في مضامين السينما المصرية، ومن الطريف أنه كان يكتب كلمة (فيلم) هكذا (فلم) دون ياء، وهو ما شاع طويلاً في الصحافة العربية.
أداة اتصال
على ضوء ما سبق، ومع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة اللغة الصحفية السائدة في حقبة الخمسينات من القرن المنصرم، والتي يجب أن لا نحاكمها بقسوة عبر مقارنتها باللغة الصحفية في أيامنا هذه، تكون مجلة (الأردن الجديد) قد ساهمت في تزكية الاهتمام الجماهيري المتزايد بالسينما كأداة اتصال جديدة. وكانت في الوقت ذاته المحطة الأولى لنشأة النقد السينمائي وتطوره، كما كانت القناة الرئيسة لهذا النوع من النقد، من خلال كتابات (ع. سماوي) في تلك المجلة التي أصبحت عدة صحف ومجلات محلية فيما بعد تحذو حذوها من حيث الاهتمام بالفن السابع والكتابة عن عروض افلام الصالات.
حتى هذه اللحظة، لا تتوفر لدينا معلومات وافية عن المجلة السينمائية الوحيدة التي ظهرت في الأردن في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وحملت عنوان (السينما) وكان صاحبها ورئيس تحريرها محمد سعيد اشكنتنا. صدر من المجلة حوالي اثنا عشر عدداً، وتوقفت بصورة مفاجئة. وللأسف فإن المجلة فقدت أعدادها ولم يتسنَّ لنا الاطلاع على أي منها، بيد أن الذين اطلعوا على أعدادها يروون أنها لم تكن بالمستوى الجاد والهادف، وأغلبية ما كانت تنشره عبارة عن صور لنجوم السينما العالمية (هوليوود) آنذاك ومشاهد ولقطات من أفلام السينما المصرية، إضافة إلى أخبار وتعليقات قصيرة متنوعة تعمل على جذب القرّاء وإثارة انتباههم.
وثمة مجلة (فن)، التي صدرت في مطلع أيار 1954 واستمرت في الصدور حتى تاريخ 17 تموز 1954، وهي مجلة فنية وأدبية واجتماعية ورياضية وهزلية، مصوّرة، نصف شهرية، وقد بلغ مجموع ما صدر منها خمسة أعداد فقط، كانت تتناول، بصورة خاصة، أخبار السينما والنجوم. أما صاحب امتيازها فكان زهير سري العالم البسطامي ومحررها المسؤول عادل عبد الكريم المنير.
ظواهر نقديّة
في مطلع آذار 1959، صدر العدد الأول والأخير من مجلة فنية حملت عنوان (هنا عمان) التي قدمت نفسها للقارئ بأنها مجلة شهرية تصدر عن إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية واقتصرت موادها على برامج الإذاعة، بالإضافة إلى بعض الموضوعات الفنية والثقافية وأخبار صناعة السينما القادمة من استوديوهات مصر وهوليوود.
وفي أواخر الستينات صدرت مجلة شهرية أخرى حملت عنوان (هواة الفنون) عن نادي هواة الفنون بعمان، محررها المسؤول ورئيس تحريرها نايف نعناعة، وهي مجلة تعنى بشؤون الفن والفنانين، وأخبار صناعة السينما العربية والعالمية، إلى جانب بعض المقالات السينمائية المأخوذة عن مجلات أخرى.
أما في منتصف عام 1971، فقد أصدرت صحيفة (الصباح) اليومية التي كان يرأس تحريرها عرفات حجازي، مجلة فنية متخصّصة، وزعت مع عدد يوم 19/6/1971، على شكل هدية مجانية، وحملت اسم “الصباح الفني وكان المشرف على إصدارها والقائم على تحريرها صبحي القدرة. وقد خصّصت المجلة أكثر من موضوع عن الفن السينمائي، ومتابعات سينمائية مثل: تونس والمهرجان الدولي للأيام السينمائية، ومقالين عن السينما السوفيتية، والسينما الهندية، إلى جانب موضوعين آخرين أحدهما عن السينما البلغارية والآخر عن موجة الأفلام الجديدة في السينما الفرنسية. وقد ظهرت هذه المقالات مرفقة بالعديد من الصور لمشاهد عن هذه الأفلام، إلاّ أنها خلت جميعها من توقيع اسم أي ناقد أو كاتب.
قبل ذلك بعامين كانت هناك مجلة فنية تصدر عن مؤسسة الإذاعة والتلفزيون بغير انتظام، وهي تحمل عنوان (الإذاعة والتلفزيون)، وظهرت فيها بعض المقالات المتخصّصة بالنقد السينمائي لكتّاب منهم: رياض عودة سيف وزهير صيام وأحمد اللبابيدي وآخرون، وكان يرأس تحريرها عبد الرحيم عمره. غير أنها توقفت بعد عام واحد فقط من صدورها.
ومن الضروري، الإشارة هنا إلى مجلة أخرى ظهرت بالاسم نفسه، وكان يرأس تحريرها الصحفي عرفت حجازي، وكانت موضوعاتها على غرار زميلتها. ومن كتّابها في حقل النقد السينمائي نذكر توفيق مراد وسميح بدران. إلا أن مصيرها جاء مثل سابقتها، توقفت عن الصدور بعد أعداد قليلة.
هذه المحاولات الأردنية عملت مجتمعة اضافة الى تلك الزوايا التي خصصتها العديد من الصحف والدوريات اليومية والاسبوعية للكتابة في حقل النقد السينمائي، رغم محدوديتها، على تكريس النقد السينمائي كظاهرة وفعل إبداعي ضمن الحياة الثقافية الأردنية.
*ناجح حسن، ناقد سينمائي أردني