اقتضى التنفيس…
“لا، هذا ليس فيلما وثائقيا. انه مسلسل تلفزيوني خيالي بحت لا يستند الى أحداث حقيقية، من انتاج وإخراج أمريكي”. أكادُ أجزم بأنني ردّدت هذه العبارة عشرات المرات، بل ما يفوق ذلك، على خلفية جدل واسع أثير حول حيثيات تصوير مسلسل تلفزيوني أمريكي في الأردن.
ليست المرة الأولى التي تفيض فيها منصات التواصل الاجتماعي، بصور من مواقع التصوير وتعليقات وأسئلة واتهامات واستنكارات، إضافة الى العديد من المغالطات. وذلك ليس من المستغرب فنحن اليوم في عصر الانترنت وهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي وفي سباق لممارسة ما يُعرف بـ “صحافة المواطن” أو “اعلام المواطن” والأهم السبق الإعلامي والإثارة. فكل مواطن هو مشروع صحفي صاعد، أو مراسل على الأقل – ليس بالضرورة من قلب الحدث – وانما يحق له أن يمارس هذه المهنة وهو جالس في “قلب” بيته في عطلة نهاية الأسبوع خلف شاشة جهازه ودون أن يحرك ساكنا سوى إعادته لنشر أخبار لا يعرف مدى صحتها ولا يبالي أصلا بالتحري عنها، ليساهم بدوره في تغذية منشورات مضللة واثارة بلبلة.
بقولي هذا، لا أقصد التعميم ولا أقصد التشكيك بحق أي مواطن في طرح التساؤلات والمطالبة بإجابات واضحة من الجهات المسؤولة عن كل ما يجري من حوله (في وطنه على الاقل) وبشأن القضايا التي تهم الرأي العام أو تمس شعور الناس. ولا اصادر حق أي أحد بأن يمارس دوره كمواطن فعّال في الصحافة التشاركية، ولكن شريطة مراعاة أدنى معايير المصداقية والدقة والمسؤولية المجتمعية والأخلاقية لدى النشر.
وسرعان ما يتهافت الصحافيون والعاملون في مختلف الصحف والمواقع الإخبارية والقنوات التلفزيونية المحلية ليضطلعوا بدورهم المهني في تقصي الخبر وكشف الحقيقة حول ما يتم تداوله. عادة ما أوكل مهمة إيضاح المغالطات التي تحيط موضوع التصوير بحكم عملي في قسم الاعلام في الهيئة الملكية الأردنية للأفلام. فمن الطبيعي أن يكون لدى الهيئة دور أساسي في القضايا التي تتعلق بالتصوير في المملكة؛ اذ أن جزء من مهام الهيئة، مثل أي هيئة أفلام في العالم، يكمن في تسهيل الإنتاج، أي انتاج يتم تصويره في الأردن، بما في ذلك توفير أرضية لوجستية تسهل علمية تصوير المسلسلات والأفلام في المملكة وإصدار التصاريح اللازمة بعد التنسيق مع الجهات الرسمية والأمنية في البلد. هذا الدور الأساسي والمعروف للهيئة هو ربما ما يدفع أحيانا الجهات المرتكبة الخطأ أن تتنصل عن مسؤوليتها وتسرع في زج الهيئة، بصفتها مؤسسة عامة، في خانة الاتهام وفي مواجهة مع الاعلام.
لا يتوقف هاتفي عن استقبال الاتصالات المتوالية. وغالبا ما أصادف “نماذج” مختلفة، ان صح التعبير، من الصحافيين والعاملين في هذه المهنة. مثلا، الصحافي اللحوح الذي يصرّ على طرح السؤال نفسه مرارا وتكرارا بالرغم من أن الإجابة واحدة لا تتغير مهما أعيد السؤال، أو ذاك الذي يأتي بسؤال عريض للغاية مما يجعلني أصيغ الخبر بالنيابة عنه أو ذاك الآخر الذي يلجأ إلى عنوان مثير بعيد كل البعد عن الدقة أو أيضا المهتم فقط بتحقيق السبق الإعلامي فتتسارع أسئلته ومعه دقات قلبي.
وبالتأكيد، أسعد دوما بالتعامل مع معظم الصحافيين والإعلاميين ممن يمارسون هذه المهنة على أنها مسؤولية وأمانة وليست مجرد وظيفة أو مصدر لرفد الحساب البنكي أو زيادة الشهرة. من السهولة أن تلمس في هؤلاء اللباقة في الحديث والتحضير المسبق والثقافة العامة والمخزون اللغوي والفكري الثري والمهنية والدقة والشغف، مما يعطي هذه المهنة بريقها ومكانتها وأثرها الحقيقي في المجتمع كسلطة رابعة.
كوني تلك التي تُنظّر حول مثاليات تحرّي صحة الخبر في الصحافة والاعلام، يتوجب عليّ دوما أن أتوخى الحذر وأن أكون حريصة جدا حيال دقة كل تصريح أو بيان يصدر عني وباسم المؤسسة التي أعمل فيها.
وكحال أي موضوع يُشغل ويُشعل الشارع الأردني، لا بد أن يكون هناك نصيب للمقابلات الاذاعية والتلفزيونية على الهواء مباشرة. في بعض الأحيان، قد تشتد حدة الموقف بالنسبة لي في ظل محدودية المعلومات المتوفرة وفي وجه مطالبات متصاعدة للحصول على إجابة وافية. بالمقابل وفي معظم الأحيان، أشعر بالارتياح والثقة كونني أحمل في جعبتي ما يلزم لإصدار تصريحات تفي بالغرض. ففي مثل هذه الحالات، يقدّر كل من يعمل كمتحدث اعلامي باسم مؤسسة ما وجود الشفافية والوضوح والتشاركية داخل المؤسسة فيما يخص تفاصيل التفاصيل لأية أزمة أو حادثة قد تثير الرأي العام وتجذب انتباه الاعلام.
من باب الفضول (والاطلاع طبعا)، لا يسعني الا أن أقرأ معظم التعليقات الواردة على منصات للتواصل الاجتماعي عقب المقابلات. وعادة ما يكون ذلك تطبيقا عمليا لما تعلمته أثناء دراستي للإعلام: ضرورة الفصل بين الصفة الشخصية والصفة الوظيفية العامة لدى العمل في هذا المجال، وهذا ما أفعله وأذكر به نفسي دوما.
في ظل الشد والجذب في مثل هذه الأزمات، تتزاحم أسئلة عديدة في بالي: ما مدى الجاهزية للتعامل مع الأزمات على مستوى المؤسسات والأفراد؟ وهو سؤال مشروع باعتقادي، كوننا نرتبك، على سبيل المثال، لدى التعامل مع “أزمة” بحجم هطول مطر غزير أو زخات من الثلج. ما مدى مصداقية وسائل الاعلام أثناء الأزمات؟ ما هو الهدف من التناول الإعلامي للأزمات: هل هو رصد الحقيقة أم سبق صحفي أم حصد أكبر عدد من المشاهدات والتعليقات و”اللايكات” أم المحاسبة والمساءلة؟ كيف يتم احتواء الرأي العام في ظل التشتيت المصاحب للأزمة؟ من يتحمل مسؤولية الأزمة بعيدا عن تراشق الاتهامات وتحميل المسؤوليات؟
في المقابل، أخرج بدوري ببعض الخطوط العريضة حول التواصل الإعلامي في غضون الأزمات ومنها: دراسة الموقف واتخاذ القرار المناسب، التنبؤ بعلامات الاستفهام التي ستحوم حول الازمة، صياغة رسالة إعلامية واضحة تجيب عن علامات الاستفهام تلك (وعلامات التعجب في بعض الأحيان)، أهمية التواصل السريع مع الجمهور لدرء أية مصادر للأخبار المضللة، ضرورة وجود ذراع اعلامي مؤازر للمؤسسات للمساعدة في إيصال المعلومة الصحيحة للجمهور، تحديث البيان وفقا للمستجدات، الدروس المستفادة لمواجهة أزمات في المستقبل.
ومع اتساع رقعة تأثير وسائل الاعلام، تزداد برأيي أهمية دور المتحدثين الإعلاميين – الرسميين الدائمين أو “المؤقتين” وفقا لمتطلبات “الأزمة” – الذين يجب أن يتحلوا بصفات ويتمتعوا بمهارات عدة مثل: القدرة اللغوية على صياغة تصريحات واضحة ومبنية على معلومات صحيحة، سرعة البديهة، متابعة الاحداث أولا بأول، الابتعاد عن الانفعالية، المرونة، إدراك أن بعض الأمور التي قد تبدو بديهية بالنسبة للناطقين قد لا تكون كذلك بالنسبة للجمهور، تحمل المسؤولية ولكن دون السماح بأن يزجوا في خانة المتهم، والأهم الهدوء ثم الهدوء ثم الهدوء.
قد يبدو كل ما ذكر بديهيا للبعض أو لكثيرين. وقد يبدو مبالغا بتضخيمه بما أن موضوعنا متعلق أساسا بتصوير مسلسل روائي ليس إلا… وهذا ليس بقضية مصيرية بحد ذاتها. ولكن بالنسبة لي، أشعر بأنه اقتضى التوضيح، أو اقتضى التنويه، أو على الأقل اقتضى التنفيس..
مريان ناخو: إعلامية ومنسقة الشؤون الإعلامية في الهيئة الملكية الأردنية للأفلام*