التحول المستدام لصناعة الفنون البصرية
تتأثر صناعة الأفلام بالعديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. مع تطور مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الفنون البصرية أقرب للحياة اليومية والصحوة الاجتماعية /السياسية ويتم استغلالها كدافع للعديد من صناع الأفلام لتصبح حملات التغيّر المجتمعي على شكل فيلم ترفيهي مثل أفلام دعم حقوق الأقليات العرقية والمرأة.
ومن بين الحملات، حملات تعنى بالبيئة والتغير المناخي التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من صحوة تجاه القضية، ومن هنا تم ابتكار فكرة منظمة بعدما كانت جهود فردية عشوائية من ناشطين بيئيين يعملون في صناعة الأفلام.
في ٢٠١١، انطلقت نواة تنظيم فكرة الإنتاج الصديق للبيئة من قبل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، حيث تم تطوير طريقة لحساب البصمة الكربونية والأثر البيئي لصناعة الفنون البصرية. لكي تنتشر الفكرة ولتجنّب أي تعارض بالمصالح مع أي قناة أخرى قد تكون منافسة ل (BBC)، تبنّت مؤسسة بافتا BAFTA لنشر الوعي البيئي في بريطانيا هذا المشروع ومنها انطلق للعالم عبر تأسيس مؤسسة ألبرت في نفس العام.
هناك العديد من المؤسسات عالميا المعنية بنشر الوعي البيئي في مجال صناعة الأفلام مثل رابطة المنتجين الأميركيين PGA والاتحاد الأوروبي و Greener Screen في منطقة الشرق الأوسط.
لماذا الإنتاج البيئي؟
تعتبر صناعة المحتوى من الصناعات التي تستهل الكثير من الطاقة، المواد والتنقل بكافة مراحل الإنتاج وهذا يؤدي الى رفع البصمة الكربونية لهذه الأعمال، حيث ان متوسط الساعة الواحدة من انتاج تلفزيوني قد ينتج عنه ١٦ طن من الانبعاث الكربوني اي ما يوازي البصمة الكربونية لعائلة من ثلاث أشخاص وبالحجم ما يوازي ٣ أفيال أفريقية
وهذه الأرقام تتضاعف عند أنتاج الأفلام خصوصا افلام الحركة والرعب وقد تصل الى مئات الأطنان.
لكن ما هو الإنتاج المستدام؟ ولماذا نحتاج لتحويل كافة انتاجاتنا إلى ممارسات صديقة للكوكب؟
الإنتاج المستدام هو ممارسات عامة يتم تنفيذها عبر كافة مراحل إنتاج المحتوى (سواء أفلام أو تلفزيون أو محتوى رقمي) تقلّل من البصمة الكربونية للعملية الإنتاجية وتحدّ من النفايات الناجمة عن هذا العمل والتي تؤثر سلبا على كوكبنا بشكل عام.
هناك العديد من المحاور للتحول إلى الإنتاج المستدام أهمها: الطاقة والمواصلات والمخلَفات.
يمكن توفير الطاقة، التي تعتبر القسم الأكبر للبصمة الكربونية في الإنتاجات الروائية، من خلال الاعتماد على الإضاءة الطبيعية المستمدة من الشمس واستخدام تقنية LED في الإضاءة والترشيد في استخدام الطاقة بشكل عام ومحاولة اللجوء إلى مصادر متجددة للطاقة مثل الخلايا الشمسية، خصوصا أننا في الأردن نستخدم حالياً الطاقة المتجددة بواقع ٢٠٪ من الطاقة الإجمالية المنتجة في الدولة.
أما بخصوص المواصلات، فهي تغطي كافة مراحل الإنتاج ابتداء من البحث عن المواقع في مرحلة ما قبل الإنتاج وصولا إلى مرحلة الإنتاج ونقل فريق العمل وانتهاء بمرحلة إطلاق الأعمال المنتجة، حيث يكثر السفر للمشاركة في مهرجانات دولية وافتتاح العروض العالمية، وهنا تتنوع الحلول بين الاختيار الواعي لوسائل التنقل، حسب توفرها، مثل سيارات الكهرباء ومركبات الهجينة (الهايبريد) أو القطارات والمواصلات العامة والتنقل عبر وسائل نقل جماعية حسب تواجدها في موقع الإنتاج أو العرض.
وفي حالة السفر بالطائرة، يمكن تقليل عدد المسافرين، وفي جميع الأحوال ولدى الاعتماد على مبدأ التقليل، يمكن حساب البصمة الكربونية الخاصة بالتنقّل ودفع “ضريبة الكربون الطوعية” وهي طريقة لدعم مشاريع إعادة التشجير والطاقة البديلة لمعادلة الأثر البيئي الناتج عن هذا الأمر.
وبالحديث عن المخلفات التي نرى أثرها ملموسا وواضحا للعيان إلا أنه عادة يكون أقل تأثيرا على الكوكب مقارنة مع الطاقة والمواصلات، يسهل التعامل مع المخلفات وخلق وعي عام لدى فريق العمل باتباع ثلاث قواعد أساسية، الرفض والتقليل وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير.
يجب علينا دائما الاختيار بشكل واعٍ. على سبيل المثال، يمكن استبعاد البلاستيك الأحادي الاستخدام، مثل قوارير المياه البلاستيكية، واستبدالها بقوارير يمكن إعادة تعبئتها. أما في حالة عدم توفرها، يمكن اختيار المواد الورقية التي يمكن إعادة تدويرها وتكون قابلة للتحلل العضوي، وكذلك الأمر بالنسبة لاستخدام الملاعق والصحون التي يمكن اعادة استخدامها. كما يمكن التواصل عبر البريد الإلكتروني والملفات الرقمية بدلا من الطباعة.
أما بالنسبة للطعام، يفضل دائما وضع خطة للتبرع بالكميات الفائضة أولا ومن بعدها فصل المخلفات العضوية ليتم استخدام ما يمكن تحويله إلى سماد طبيعي والتبرع به لصالح مبادرات زراعية موجودة في منطقة التصوير.
قد تبدو هذه الممارسات كثيرة ومغايرة لما نفعله عادة خلال صناعة أفلامنا. ولكن يجب الاعتراف أننا تعلمنا درسا مهما خلال السنة والنصف الماضية، في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد، بأننا نستطيع دائما التغيير والتأقلم مع واقعنا. حاليا، نعيش حالة طوارئ مناخية تؤثر علينا ككل ولكن نحن كصناع أفلام نملك منصة للتغيير.
لا يقتصر العمل بالإنتاج الصديق للبيئة على نوع معين من الإنتاجات، بل يشمل المحتوى التلفزيوني والرقمي والسينمائي بمختلف أشكاله ومواضيعه. ومن أشهر التجارب العالمية في هذا المجال، فيلم “١٩١٧ “، من إخراج سام منديس، الذي أصر صانعوه أن يغيروا طريقة الإنتاج في كل جوانب العمل من التحضير إلى الإنتاج وما بعد الإنتاج ليكون أكبر فيلم بريطاني يحصل على شهادة الإنتاج المستدام من مؤسسة الأمير ألبرت .
ويشهد الوطن العربي أيضا العديد من التجارب، أحدثها وأكثرها تميزا من الناحية البيئية الفيلم اللبناني “كوستا برافا” – من إخراج مونيا عقل وانتاج ميريام ساسين (ابوت فيلم) – حيث تم وضع خطة متكاملة لتنفيذ الإنتاج بطرق مستدامة بالتعاون مع The Good Pitch بالعربي وبيروت دي سي و Greener Screen. وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجه صناع الأفلام في لبنان، فقد نجحوا بتنفيذ خطتهم وتقليل بصمتهم الكربونية والمخلفات التي قد تصدر عن فيلم مشابه، ناهيك عن أن التحديات البيئية كانت جزءا لا يتجزأ من قصة الفيلم.
أمّا في الأردن، فقد اعتمد الفيلم الروائي القصير “سلام”، من إخراج زين دريعي وإنتاج علاء الأسعد (تابع٣٦٠)، على ممارسات صديقة للبيئة، حيث نجح فريق العمل بتقليل عدد الأوراق التي تمت طباعتها واستعمال أدوات طعام غير أحادية الاستخدام وحصر مواقع التصوير في مناطق متقاربة لتقليل الحركة والتنقلات عبر السيارات.
تساعد هذه الممارسات كوكبنا على التعافي من حالة الطوارئ المناخية ليس بسبب تأثيرها المباشر على البيئة فحسب، وإنما لتأثيرها أيضا على سلوكيات الأشخاص في حياتهم اليومية واتباع هذه الممارسات بشكل مستمر ومشاطرتها مع إنتاجات أخرى. أما الخبر السارّ للمنتجين، فإن هذه الممارسات موفّرة اقتصادياً على جميع الأحوال.
يجب أن يكون مستقبل صناعة الأفلام أخضرا، اذ لا تنفصل هذه الصناعة عن الاقتصاد العالمي ولها وزنها بالتأثير على المتلقين. وكما كان للمحتوى، في العقود الماضية، دور بتعزيز مفاهيم اجتماعية ايجابية عبر رسائل مباشرة وغير مباشرة للجمهور، يأتي اليوم دور صناع الأفلام في مساعدة كوكب الأرض للتعافي ونشر مبادئ حياة مستدامة من خلال أعمالهم ليكونوا جزءا من هذا التغيير الإيجابي.
* بسام الأسعد منتج ومخرج. أنتج عددا من الأعمال في المنطقة بالتعاون مع شركة CMS Gulf في دبي. منذ 2014، أصبح الأسعد عضوا في رابطة المنتجين الأميركيين، وفي نفس السنة، بدأ مسيرته في التحول المستدام لصناعة الفنون البصرية وتقديم الاستشارات في هذا المجال. شارك في تأسيس Greener Screen لإحداث تحول صديق للبيئة في مجال صناعة الأفلام. يدير الأسعد حاليا “أيام عمّان لصناع الأفلام” ضمن مهرجان عمّان السينمائي الدولي – أوّل فيلم.