المونتاج (الفن الخفي)
“الأفلام تُصنع في غرفة المونتاج، فالعديد من الأفلام أُنقذت في مرحلة المونتاج والعديد من الأفلام الأخرى أُفسدت في نفس المرحلة.” المخرج السينمائي “جو دانتي”.
في معناه الحرفي من الفرنسية يُعرّف المونتاج “Montage” على أنه تركيب شيء على آخر، وفي مجال الفيلم يُطلق المونتاج على فن اختيار المشاهد وتقطيعها وإعادة ترتيبها حتى تُشكل رسالة محددة، وفي العربية وبسبب التأثير المباشر للثقافة الفرنسية مع بداية القرن السابق، تم إطلاق مصطلح “المونتاج” على المهنة والإشارة لمن يعملون في هذه المهنة بـ “مونتير” أو “محرّر”. يمكن القول إن المونتاج هو فن خاص بالسينما ويتفرع عنها، ويميّزها عن غيرها من الفنون. في بداياته، كان المونتاج حاجة تقنية فقط، ولكنه اليوم أصبح ضرورة إبداعية أيضاً لازمة لاكتمال الفيلم وأحد أهم مراحل صناعته. فالمونتاج يشكّل مزاج الفيلم العام، أساسه وإيقاعه ويُحقق التوازن والانسجام الذي يأسر المشاهد. والمونتير هو المسؤول عن الخوض في السيناريو وتفاصيل القصة وإعادة بنائها وسردها، بأحداثها وشخصياتها وبعناصرها الزمانية والمكانية المختلفة، فهو يبحث في اللقطات المُصورة بدقة وعناية ويُشكّلها ويُرتبها مُرتكزاً على حسه الخاص ليُحقق التوازن بين كافة العناصر ويخلق بناء درامي يروي القصة بأفضل وجه.
ولكنّ مرحلة المونتاج هي أيضاً الأقل إنصافاً من بين جميع المراحل، وذلك لأنه إذا ما أُتقن فإنه من الصعب إدراكه. فطبيعة عمل المونتير تتطلب منه إخفاء دوره وإعطاء سرد القصة السينمائية كل العناية، ولذلك يُشار للمونتاج بالفن الخفي. وفي ذلك تقول “ثيلما شونميكر” وهي مونتير حائزة على ثلاث جوائز أوسكار عن دورها في المونتاج: “هناك الكثير من الغموض يلف المونتاج وذلك لأنك ليس من المُفترض أن تُدركه، عليك أن تشعر أن للفيلم إيقاعا وتناغما ودراما، ولكن ليس عليك بالضرورة أن تقلق حول كيفية تحقيق ذلك.” فالمونتاج يجب أن يكون سلسا وغير مرئي، وولاء المونتير عليه أن يكون للقصة وليس لإظهار مهاراته كمونتير. بالطبع هناك بعض تقنيات المونتاج المرئية ـ إذا جاز التعبير- مثل القطع المُفاجئ، ولكن استخدامها يكون دائماً في خدمة القصة وضبط إيقاع الفيلم. المونتاج هو تلاعب بالصورة حتى تتمكن من استفزاز المشاعر المطلوبة لدى المُشاهد. بالمونتاج المُتقن أنت تسيطر على المُتفرج لمدة الفيلم، في اللحظة التي تستخدم فيها قطع غير مناسب أو لقطة أطول مما يجب أنت تفقد هذه السيطرة على المُشاهد.
“والتر مارش” الحاصل على جائزتي أوسكار عن دوره في المونتاج وضع في ست نقاط مبادئ وأولويات يُمكن استخدامها لتحقيق مونتاج فعّال: المشاعر، القصة، الإيقاع، أثر العين، بعدي الشاشة المسطحة، مساحة المشهد في ثلاثة أبعاد. وضعها بالترتيب من الأهم إلى الأقل أهمية، فالمشاعر بالنسبة له هي أهم ما يجب الحفاظ عليه في المونتاج.
أولاً: المشاعر
على المونتير أن يسأل نفسه كيف سيُؤثر القطع في هذه اللحظة على مشاعر المُشاهد؟ عليه أن يخلق نوعا من الانسجام في قطعاته تضبُط إيقاع الفيلم وتستجيب للتجربة العاطفية للمُشاهد أثناء المُتابعة. فإذا كان القطع في هذه اللحظة يُطفئ أو يُشتت المُشاهد عن التجربة العاطفية للقصة، فلا حاجة له.
في فيلم “I, Tonya”، للمخرج “غريغ جيلسبي” وللمونتيرة “تاتيانا ريجيل”، وتحديداً في المشهد قبل خروج تونيا لأداء التزلج في الأولمبياد بعد أن اكتشفت أن حذاءها غير صالح لذلك، كان لا بد من تحفيز مشاعر التوتر والإثارة لدى المُشاهد. وبالاقتران مع الصوت الذي يُستخدم عادة لتعزيز التجربة العاطفية، استُخدم كل قطع لخدمة هذه المشاعر. فنرى أولاً لقطة واسعة للستاديوم فيظهر حجم الجمهور الذي ينتظر تونيا مقترناً بصوت أقدامهم وهتافاتهم، فيشعر المُشاهد بالضغط الهائل والقلق الذي لابد أن تونيا تشعر به الآن، قطع؛ لقطة لغرفة تونيا فارغة، مزيد من الغموض يعني مزيد من التوتر، ثم قطع؛ لقطة واسعة لأشخاص ينتظرون أيضاً خارج غرفتها، تصاعد بمشاعر الترقُب، قطع؛ لقطات قريبة لوجوه قلقة تنتظر تونيا، كل لقطة جديدة تثير القلق والتشويق لدى المُشاهد وكل قطع يبني تدريجياً لتحفيز مشاعر القلق والاضطراب حتى يصل بها إلى مرحلة الذروة حين تخرج تونيا وتطلب مزيداً من الوقت من الحكّام.
ثانياً: القصة
على المونتير أن يسأل نفسه هل القطع في هذه اللحظة سيُحرك القصة إلى الأمام؟ كل قطع عليه أن يتقدم بالقصة إلى الأمام، إذا كان المشهد لا يزيد على القصة ويُطورها، يُحذف.
القصة في فيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind” للمخرج “ميشال غوندري” مثلاً، هي أنك عندما تمحي الألم فأنت تمحي الحب، كل قطع عليه أن يقودنا نحو هذه الحقيقة. حتى تعكس حالة الارتباك التي يمُر بها جويل استخدمت المونتيرة “فلاديس أوسكارديتر” المونتاج غير الخطي وهو ما خدم قصة الفيلم حتى النهاية، فنرى جويل يتعرض لمحو ذاكرته من الأحدث للأقدم تدريجياً حتى إذا وصل لذكريات بداية علاقته بكلمنتاين عشنا معه دفء هذه المشاعر. وعندما أدرك أنه يريد التراجع عن محو ذاكرته نكون قد وصلنا معه لنفس الاستنتاج. هذا الترتيب العكسي للأحداث دفع القصة إلى الأمام بطريقة عززت التجربة العاطفية أيضاً.
في نفس الفيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind” تم التخلي عن كثير من المشاهد التي تجمع جويل بحبيبته التي سبقت كلمنتاين، بغرض التركيز على علاقة جويل وكلمنتاين. هذا القرار، وعلى الرغم من صعوبته، إلا أنه جعل الفيلم ما هو عليه اليوم: أحد أهم الأفلام على الساحة السينمائية.
ثالثاً: الإيقاع
على المونتير أن يسأل نفسه هل القطع في هذه اللحظة يُحافظ على الإيقاع في المشهد؟ إذا كان الإيقاع غير مضبوط، القطع سيظهر سيء وبالتالي سيُخرج المشاهد من روح الفيلم. بالعادة، المونتاج سريع الإيقاع متصل بالتوتر والإثارة مثل مشاهد الحركة؛ والمونتاج بطيء الإيقاع متصل بالهدوء والسكينة مثل المشاهد الرومانسية.
في فيلم “Psycho”، للمخرج “ألفريد هيتشكوك” وللمونتير “جورج توماسيني” تحديداً مشهد الاستحمام الشهير، تم التلاعب بالإيقاع لإبراز الهدوء قبل مهاجمة الضحية، التوتر والاضطراب خلال الهجوم، ثم العودة إلى الهدوء مجدداً بعد الهجوم. تم تحقيق ذلك من خلال إظهار اللقطات لوقت أطول على الشاشة فيكون القطع أقل وبالتالي الإيقاع بطيء وهذا يعكس شعور الشخصية بالأمان والاستقرار قبل الهجوم، ويستمر حتى تبدأ الضحية بالاستحمام. فجأة يتغير كل ذلك حين نرى ظل الرجل الذي سيُهاجمها، فتصبح اللقطات أقصر والقطع أكثر وبالتالي الإيقاع سريع وهذا يعكس الخوف والتوتر والقلق الذي تمر به الشخصية ويُراد نقله للمُشاهد. ثم نعود مجدداً لحالة الاستقرار بعد الانتهاء من الجريمة وتصبح اللقطات أطول والإيقاع بطيء.
رابعاً: أثر العين
على المونتير أن يسأل نفسه هل القطع في هذه اللحظة سيؤثر على نقطة تركيز عين المُشاهد في إطار اللقطة؟ على المونتير أن يكون واعيا دائماً أين يريد أن ينظر المُشاهد داخل الإطار ويقطع على أساسه ويُطابق الحركة من مشهد إلى آخر. عند فهم هذه القاعدة تماماً يمكن استغلالها من قبل المونتير لإخفاء معلومات مؤقتاً عن المُشاهد.
في فيلم “Mad Max: Furry Road” للمخرج “جورج ميلير” مثلاً، التزمت المونتيرة “مارغريت سيكسل” بهذه القاعدة وتحديداً في مشهد المُطاردة، لتستحوذ على انتباه المُشاهد واهتمامه. فجعلت التركيز دائماً في مركز اللقطة، وفي كل لقطة اعتمدت على سابقتها في تحديد نقطة التركيز وبالتالي استغلالها لوضع معلومات مهمة في هذه النقطة.
في فيلم “Fight Club”، للمخرج “ديفيد فينشر” للمونتير “جيمس هايجود”، تم استغلال هذه القاعدة للتلاعب بالجمهور وتمرير معلومات خلال الفيلم دون وعي المُشاهد. ففي بداية الفيلم، يتم عرض لقطات قصيرة جداً لتايلر في غير نقطة تركيز المُشاهد فيترك انطباع بالتشتت والارتباك لديه وهو المُراد من هذا التلاعب.
خامساً: بعدي الشاشة المسطحة
على المونتير أن يسأل نفسه هل القطع مُلتزم بالخط الوهمي “محور خط ١٨٠”؟ عليه أن يتأكد من أن القطعات تُراعي الخط الوهمي (Axis)، حتى تُحافظ على الاستمرارية في الحركة، وتمنح المُشاهد القدرة على متابعة المكان وحركة الأشياء والشخصيات فيه. وهذه القاعدة واضحة في معظم الأفلام، تحديداً حين يجمع المشهد بين شخصيتين متقابلتين. فالقاعدة تقتضي القطع على كل شخصية من نفس المكان، مُراعين الخط الوهمي بحيث شخصية “أ” تنظر إلى اليمين وبالمقابل شخصية “ب” تنظر إلى الشمال فيبدو أن الشخصيتين “أ ” و”ب” فعلاً تنظران إلى بعضهما، حتى لو تم التصوير في أوقات مختلفة مثلاً. بالطبع يُمكن كسر هذه القاعدة إذا كان المُراد إرباك المُشاهد.
في فيلم “The Shining”، للمخرج “ستانلي كوبريك” وللمونتير “راي لوفجوي” تم كسر هذه القاعدة لتعزيز مشاعر الاضطراب والارتباك. ففي مشهد الحمام حين يتحدث جاك مع القائم بأعمال الفندق ويخبره الثاني بأنه لا يعمل بهذا الفندق وأن جاك هو المسؤول عنه، يتم القطع للقطة خلف الخط الوهمي لتعزيز الشعور بانفصال جاك عن الواقع.
سادساً: مساحة المشهد في ثلاثة أبعاد
هل القطع مُلتزم بالعلاقة بين المكان وكل ما في داخل الإطار؟ عليه أن يتأكد من أن المُشاهد مُدرك لمكان كل شيء بالنسبة للآخر. وعلى المونتير أن يعرض الشخصيات وما حولها حتى يكون المُتفرج مُستوعب لما يدور في الفيلم. طبعاً لدى المُتفرج اليوم القدرة على استيعاب الفيلم بصرياً أكثر من المُتفرج القديم، حيث كان خوف صانعي الأفلام سابقاً من عدم مُتابعة المُشاهد للأحداث تدفعهم للتقيد بهذه القاعدة ربما أكثر من اللازم، فيلجؤون لتصوير الشخصية تخرج من السيارة مثلاً وتمشي نحو الباب ثم تصعد الدرج وتمشي حتى المكتب وهو ما يُعتبر في عُرف اليوم مملاً وغير ذي داع. طبعاً اليوم يتم كسر هذه القاعدة في الغالب والقطع من مكان إلى آخر بسلاسة أكثر ودون الخوف من عدم تمكن المشاهد من متابعة الأحداث.
في فيلم “The Fifth Element”، للمخرج “لوك بيسون” وللمونتير “سيلفي لاندرا” تحديداً مشهد هروب ليلو، تم الالتزام بهذه القاعدة تماماً. فكل قطع أمعن في نقل الأبعاد كاملة للمكان وكل ما يحيط بالشخصية من أجهزة وجدران ومناظر، ومع كل قطع وكل لقطة جديدة يكتشف المُشاهد المزيد من المعلومات عن الحيز والبيئة التي تطرأ فيها الأحداث.
نص الفيلم مرّ بمراحل عديدة حتى وصل للمونتير، وفي أغلب الأحيان الكثير من التفاصيل ستتغير والتوازن الذي كان موجوداً في النص قد يتخلخل وهنا يأتي دور المونتير في إعادة التوازن والانسجام الذي سيربط الفيلم النهائي. يمكن القول دون تردد إن المونتير هو الكاتب الأخير للفيلم، فهو الفاصل ما بين اللقطات والمشاهد العشوائية التي ليس لها معنى قبل المونتاج وبين النسخة النهائية من الفيلم التي يتم عرضها على الجمهور. المونتير يقطع المشاهد ويعيد ترتيبها لخلق قصة، واعيا تماماً لما يجذب المُشاهد ويأسره. المونتير حكواتي في طبيعته، يضيف ويحذف في خدمة قصة الفيلم، لديه الجرأة على شطب أجمل اللقطات إن لم تكن تضيف جديداً للقصة، له عين حساسة للتفاصيل قادرة على فهم الاختلاف في المعنى الذي يخلقه إعادة ترتيب اللقطات وكيف يؤثر ذلك على المُشاهد، فالخيارات أمامه لا نهائية لتشكيل القصة والفن هو اختيار ما يتناسب مع النظرة النهائية للمخرج.
التتابع والتسلسل الزمني، القطع السلس، القطع المفاجئ، القطع السريع، القطع البطيء، القطع المماثل، القطع المتداخل، الأصوات المفاجئة، القطع مع الموسيقى، القطع الموازي، القطع المكرر، كلها مصطلحات تقنية تتعلق بالمونتاج. فالمونتاج في النهاية مزيج بين الجانب التقني والإبداعي، والمونتير يعلم ذلك، ولكنه يعلم أيضاً أنها ليست عملية تقنية فقط! على المونتير أن يكون متمكناً من الناحية التقنية، على أن يدرك تماماً أنه ما لم يكن فناناً بالفطرة فإن كل التكنولوجيا بالعالم لن تنقل قصة الفيلم إلى أي مكان. فعلى المونتير أن يشعر باللقطة وأن يحس بالمشهد وينقل بالقطع نفس المشاعر التي يود نقلها للمشاهد. عليه أن يكون صبوراً؛ فالمونتاج ليست عملية يوم أو يومين، بل قد تستغرق عدة أشهر وأحياناً سنوات.
ولا بد من القول إن على المونتير مسؤولية كبيرة. فهو لديه صلاحيات عديدة لتشكيل الفيلم النهائي، وذلك يعني أن عليه أن يكون متمكناً من عمله وذلك لا يكون إلا بالمشاهدة المستمرة للأفلام بأنواعها وقديمها وجديدها ومراقبة أساليب القطع بعناية. عليه أن يكون مستعداً للتعلم دائماً، فهذا المجال يتطور باستمرار. وعلى المونتير أيضاً أن يكون متمكناً من تاريخ المونتاج ونظرياته منذ بدأ مع “جورج ميلييه” و”إدوين بورتر” وكيف تطور على يدي “دي دبليو غريفيث “بفيلمه The Birth of a Nation (1915) مروراً بتجارب صانعي الأفلام الروس ونظرياتهم في المونتاج مثل ليف كوليشوف وسيرجي آيزنشتاين ثم الحركة الفرنسية الجديدة وأفلام جان لوك غودار التي تُدرس في المونتاج.
في النهاية، على المونتير أن يدرك أن الاختلاف بين المونتير الجيد والمونتير العبقري هو أن المونتير العبقري يفهم القواعد ولماذا وُجدت ويكسرها ويتلاعب بها ليصنع شيئاً فعّالاً. أما المونتير الجيد فلا يجرؤ على كسر القواعد، مع أن كسر القاعدة والخروج عن المألوف هو ما أوجد المونتاج في الأساس ولاحقاً نظريات المونتاج التي جعلته ما عليه اليوم.
*أميمة أسعد حموري كاتبة سيناريو مستقلة مقيمة في عمان، حاصلة على شهادة الماجيستير في الفنون السينمائية من معهد البحر الأحمر في الأردن. كتبت العديد من سيناريوهات الأفلام القصيرة وسيناريو لفيلم طويل “ثلج”.
الآراء والأفكار المطروحة في المقالات تعكس رأي كاتبها أو كاتبتها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي “توب لاين” و/أو الهيئة الملكية الأردنية للأفلام