نحن وهوليوود
“تمثل؟ وفي هوليوود؟! أي دور؟ إرهابي رقم 6؟” … ثم ضحك وضحك الحضور.
هذا ما قاله لي صديقي قبل ثماني سنوات عندما أعلمته بنيتي في الرحيل إلى أمريكا لاحتراف التمثيل. بالرغم من أن تعليقه كان ممزوجاً بشيء من المزاح، إلّا أن تلك هي كانت الأدوار المتوقعة لأي ممثل عربي أو مسلم يسعى للعمل في هوليوود. وللأسف ما زالت هذه الأدوار تمثّل النظرة أو الصورة العامة عن العرب والمسلمين في أمريكا ومعظم بلدان العالم.
إن تشبّث هوليوود بنظرة أو صورة نمطية تجاه أقلية ما ليس أمراً جديداً أو ظاهرة تخص العرب والمسلمين على وجه التحديد، فقد عاشها وعانى منها عدة أقليات خلال القرن العشرين ومنهم الأقليات الإيطالية والأفريقية وكذلك اليهودية. إلّا أنهم تمكنوا على مرّ السنين من التمرد على تلك الصورة النمطية وأن يشكلوا صورةً جديدة تتماشى مع تراثهم وعاداتهم كما يرونها هم، لا كما يراها المتنفذون في صناعة السينما من ذوي العرق الأبيض الأنجلو-ساكسوني. فكيف تمكنوا من تغيير تلك النظرة وما كانت الخطوات التي اتبعوها لتحقيق ذلك التغيير؟ وهل يمكننا أن نحذو حذوهم ونرسم صورتنا بريشتنا ومن منظورنا نحن؟ ولكن قبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة علينا أن نسأل …
لماذا كل هذا الاهتمام بهوليوود؟
فنحن أعلم بهويتنا ولا نحتاج لأن نبرر أنفسنا أمام الغربيين أو أن نستدرجهم ليغيروا رأيهم فينا، ولا سيما القائمين على صناعة “تافهة” كصناعة الأفلام. فما هي أهمية هوليوود؟
قد يكون هناك إجماع على ازدياد أهمية الإعلام في عصرنا هذا الذي أصبحت فيه مشاهدة الفيديوهات وتداولها ممارسة يومية آنية وعلى مدار الساعة! ومع أن الغاية من بعض البرامج هي الترفيه فقط إلّا أن نسبة كبيرة من الأفلام والمسلسلات لها فائدة أكثر من مجرد التسلية، فهي تُحيي التاريخ وتوثّق التجربة الإنسانية بل وتكتبها في الكثير من الأحيان. هوليوود والبرامج الأمريكية عموماً هي الأكثر انتشاراً في العالم، فهي تدخل بيوتنا وبيوت العالم أجمع حاملة معها أية رسالة أو رأي ترغب فيه من خلال قصص أفلامها ومسلسلاتها، وهي سيف ذو حدين؛ فقد علمتنا وعلمت العالم عن طيبة وبسالة شيخ سبعيني مناضل اسمه عمر المختار، كما أرتنا فظاعة العشرات من الإرهابيين العرب. فأي القصص نريد من هوليوود أن تروي عنّا؟
دروس من الأقليات الأخرى: الأفارقة والإيطاليون واليهود
بدأت السينما الأمريكية تروي قصصها من خلال أفلام تدور أحداثها حول أفراد من العرق الأبيض الأنجلو-ساكسوني. وعندما كان يتخلل هذه القصص أفراد من العرق الأفريقي، على سبيل المثال، كانت أدوارهم تقتصر على أدوار المجرمين أو العبيد أو الخدم، ولعل أكثر هذه الأدوار إهانة لهم هو دور “بلاك فيس” أي الوجه الأسود. إلّا أنهم تمردوا على هذه الأدوار واستطاعت نخبة من مخرجيهم أمثال “سبايك لي” و”جون سينجلتن” أن ينتجوا أعمالاً تحكي قصصهم من منظورهم هم كفيلم “لايف” و”مالكولوم إكس” و”بويز إن ذا هود”.
لقد تمكن ذوو العرق الأفريقي من القيام بذلك من خلال تضامنهم، حيث جمعوا بين نخبة من مبدعيهم ونخبة من أثريائهم الذين آمنوا بموضوع هذه الأفلام والمسلسلات وموّلوها، وكانت نتيجة نجاح هذا التمرد جلية في فيلم “بلاك بانثر” الذي حصد أكثر من مليار وثلاثمائة مليون دولار في شباك التذاكر حول العالم.
أما الأقلية الإيطالية فكانت ظروفها مختلفة نوعاً ما. فبالرغم من اعتماد استوديوهات هوليوود على حِرَفية الفنانين الإيطاليين في عدة مهام كبناء الديكورات والتصوير. كانت نظرة هوليوود الأنجلو-ساكسونية البروتستنتية للأقلية الإيطالية الكاثوليكية في القرن العشرين على أنهم مجموعة من الغزاة السمر الشهوانيين الخطرين الذين يتكلمون بصوت عال وإيماءات مبالغ فيها، وتجسدت هذه النظرة في العديد من الأعمال السينمائية.
ومع وجود كتاب ومخرجين إيطاليين منذ بداية القرن العشرين، إلّا أنهم لم يبدأوا برواية قصصهم بأسلوبهم إلّا بعد عدة عقود؛ والبعض يعزو ذلك التأخر لانعزالهم عن باقي الشعب الأمريكي. والطريف في مسيرة هذه الأقلية هو أنهم لم يتمردوا على الصورة النمطية التي رسمتها لهم هوليوود، بل تبنوها بما فيها من عنف وإجرام، ولكنهم عرضوا من خلالها الجانب الإنساني وأبدعوا في إظهار مهاراتهم السينمائية والروائية والتمثيلية. فأصبحت أعمال المخرج الإيطالي “مارتن سكورسيزي” رمزاً من رموز السينما الأمريكية والعالمية، والبعض يعتبر فيلم “العراب” للمخرج الإيطالي “فرانسيس كوبولا” من أعظم الأفلام في تاريخ السينما إن لم يكن أعظمها!
كانت بداية الأقلية اليهودية في هوليوود بداية مميزة، فهم من أنشأوها! فقد كان كل من “أدولف زوكر”، مؤسس استوديوهات “باراماونت”، و”كارل لاملي”، مؤسس استوديوهات “يونيفيرسال”، و”جاك وارنر” مؤسس استوديوهات “وارنر بروثرز” وغيرهم من مؤسسي استوديوهات السينما في هوليوود، من اليهود الأشكيناز، أي يهود شرقي أوروبا. لكن الصورة النمطية عن اليهود في أوائل القرن العشرين كانت تلك الصورة المرتبطة بالمتشددين من اليهود الأرثوذكسيين، وكانت هذه صورة غير مرحب بها عند عامة الشعب الأمريكي في ذلك الوقت.
في البداية، كانت استراتيجية (أو رغبة) اليهود في هوليوود هي الانخراط مع العرق الأبيض وخصوصاً الممثلين منهم، فغيروا أسماءهم من أسماء يهودية إلى أسماء آنجلو-ساكسونية؛ فتحول اسم “أيسور دانيالوفيتش” إلى “كيرك دوجلاس”، و”شيرلي سشيفت” إلى “شيلي وينترز”، كما تزوج بعضهم من غير اليهود وأدخلوا أبناءهم مدارس كاثوليكية وأصبحوا يحتفلون بعيد ميلاد المسيح.
ثم بدأ صنّاع السينما في إدخال عناصر يهودية في أفلامهم خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية وبرز العديد من المخرجين والكتاب المبدعين كأمثال “ستيفن سبيلبيرج” و”ودي آلان”. وعلى الرغم من أن هوليوود شهدت خلال العقود الماضية عدداً من الأفلام التي تحكي قصة معاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية – وهي أفلام حصلت على تعاطف كبير من الشعب الأمريكي – إلّا أنني أعتقد أن ذكاء الكتّاب اليهود في تغيير الصورة النمطية عنهم يكمن في كتاباتهم لشخصيات أبطال الأفلام على أنهم شخصيات أنجلو-ساكسونية عادية، فها نحن نشاهد البطل في فيلم تدور أحداثه حول قصة حب دون أن يعلم الجمهور طوال مدة الفيلم عن ديانة البطل ليفاجئه الكاتب في نهاية الفيلم وعند مشهد الزواج بأن حفل الزفاف حفل يهودي، أو أن يقوم بدور لاعب “فوتبول” وبعد انقضاء معظم الفيلم يشرب نخب الانتصار ويقول لصديقه (لاخايم)؛ فمع حلول مشهد الاحتفال تكون قد دخلت الشخصية إلى بيوتنا وقلوبنا دون تحفظ.
وماذا عنّا نحن؟ وما هو موقعنا في هوليوود؟
دعوني أبدأ هنا بطرح بعض الإحصائيات. تبلغ نسبة الأفراد ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة حوالي 14% من السكان، كما تبلغ نسبة المواطنين من الأصول الإيطالية في الولايات المتحدة ما يقارب 6%، ولا تتجاوز نسبة اليهود الأمريكيين 3% من سكان الولايات المتحدة، أما المسلمون في الولايات المتحدة فنسبتهم أقل من 1% ومعظمهم ليسوا عرباً. فبالمقارنة، نحن لا نمثل جزءاً كبيراً من نسيج المجتمع الأمريكي، ومع ذلك لا أعتقد أن ذلك هو السبب الأساسي في عدم وجود تمثيل عادل لنا في هوليوود، فهناك عوامل أخرى في نظري ساهمت في ذلك وأذكر منها: التقدير والتمويل والثقافة.
كما ذكرت في بداية هذا المقال، أعتقد أننا لا نقدّر صناعة الأفلام والمسلسلات كما يقدرها الغرب. فمجالات الكتابة والتمثيل والإخراج لا تقارن في أهميتها (في نظرنا) بالمجالات الأخرى كالطب والهندسة والصيدلة (الثالوث المقدس كما سمّاهم الكاتب خيري منصور رحمه الله في إحدى مقالاته). ذلك يؤدي إلى عدم توجه الكفاءات نحو هذه الصناعة مما ينتج عنه نقص في الأعمال السينمائية والتلفزيونية المميزة التي تستحق التمويل.
أمّا الثقافة، فأقصد بها الفهم الجيد للثقافة الغربية واللغة الإنجليزية. فبعكس الأقليات الأخرى التي استعرضنا مسيرتها، لم ينخرط غالبية العرب والمسلمين الأمريكيين في الحضارة الأمريكية انخراطاً عميقاً مما يحول دون قدرتهم على كتابة أو إنتاج أعمال فنية مميزة على مستوى عالمي تمكنهم من التأثير في عامة الشعب الأمريكي ومن ثمّ شعوب العالم.
اعتقد أننا قادرون على التغيير أو التأثير في الصورة النمطية للعرب والمسلمين في هوليوود والعالم. وللقيام بذلك علينا أولاً أن نعي بل ونؤمن بأهمية الأفلام والمسلسلات كوسيلة إعلامية شديدة التأثير بالآراء والقناعات. وذلك الإيمان بهذه الأهمية سيجذب الكفاءات والتمويل العربي وغير العربي ويجعلنا نتعاون على إنتاج أعمال على مستوى عالمي. وقد يسهّل تحقيق هذا التعاون إنشاء شبكة تضم المواهب وصانعي السينما والمسلسلات مما سيساهم في خلق فرص الاتصال والتعارف بين الطرفين.
ولعل أفضل الأمثلة على إمكانية إنتاج أعمال ناجحة على مستوى مرموق في هوليوود هو مسلسل “رامي” الذي يروي قصة شاب مصري مسلم (رامي حسن) المولود في ولاية نيو جيرسي، ويستعرض المسلسل ما يواجهه هذا الشاب العشريني من تحديات دينية واجتماعية استعراضاً صريحاً دون محاولة إخفاء المساوئ أو الحكم عليها، مما جعل المسلسل يلمس مشاعر العديد من العرب وغير العرب حول العالم. وقد مُنح رامي عدة جوائز عالمية على هذا المسلسل كان أهمها جائزة الجولدن جلوب. ومن الجدير بالذكر أن طاقم العمل من كتاب ومنتجين ومخرجين وممثلين هو خليط من العرب وغير العرب مما أغنى العمل وجعل له شعبية واسعة.
*إياس يونس شناعة، ممثل وكاتب أردني-أمريكي مقيم في لوس أنجلوس.