هل للسينما مناعة ضد كورونا؟

02/06/2020
Image
1
Author
ندى دوماني

لارتباك خير ما يصف وضع السينما في ظل فيروس كورونا، على غرار معظم القطاعات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.  فاليقين مفهوم بعيد كل البعد في هذه الفترة ولا أحد يدري ما ستؤول اليه الأوضاع. العالم – قادة وباحثون وعلماء ومفكرون –  يتخبط، ومعه الأرقام والتكهنات. فلا عجب أن يتأثر القطاع المرئي والمسموع، وإن يبدو ذلك متواضعا مقارنة مع العواقب الوخيمة التي اجتاحت مجمل القطاعات الاقتصادية.  غير أنه أثر لا يُستهان به. فحين سارعت طواقم التصوير على تعليق عملها في معظم أنحاء العالم، في محاولة لاحتواء انتشار فيروس كورونا، اجتاحت موجة البطالة العاملين في هذا القطاع من ممثلين ومخرجين وكوادر تقنية، الذين يعملون عادة بنظام يومي وقلما يتمتعون بحماية عمل. مع نهاية شهر نيسان/أبريل، مئات الآلاف، وربما الملايين، فقدوا عملهم في قطاع السينما والتلفزيون، فيما ناهز عدد العاطلين عن العمل في هوليوود وحدها مئة وخمسين ألف. 

في بداية الأزمة، بقينا مشدوهين بفجائية توقف الانتاجات وبإغلاق دور السينما وبالخسائر المذهلة بأرقامها وبالمشاهير التي سارعت إلى الإعلان عن إصابتها بالفيروس، وفي طليعتها النجم الهوليوودي توم هانكس والمخرج الصيني تشانغ كاي.

لم يبق أمامنا – نحن العاملين في القطاع الفني – إلا التأقلم مع الظروف المستجدة وابتكار سبل وأساليب للتكيف مع القيود المفروضة على الحركة والتجمعات. واحدة تلو الأخرى، تم تأجيل أو إلغاء الفعاليات الثقافية حرصا على السلامة العامة، فيما تزداد التساؤلات حول إمكانية استحداث أو استكمال انتاجات جديدة وكيفية ايصالها إلى الجمهور.

السينما تأتي إلى المشاهد بدل من أن يذهب إليها

لقد غيرت أزمة كورونا نمط الحياة وحصرته داخل المنازل. ومع الشكوك حول إمكانية عودة الجمهور قريبا إلى دور العرض، تعددت وسائل التعويض عنها مما دفع إلى ابتكار أنماط جديدة.  وأصبح التلفزيون والانترنت المصدرين الأساسيين للاستهلاك والترفيه ومشاهدة الأفلام أو المسلسلات.  وحققت منصات عروض الأفلام أونلاين (أمثال نتفليكس وأمازون) أرباحا طائلة لم تكن لتحلم بها.

 باشرت العديد من المؤسسات الثقافية – ومنها الهيئة الملكية الأردنية للأفلام عبر برنامج cur-films – في تنظيم برامج عروض أفلام أونلاين.  كما ساهم العديد من السينمائيين في هذا التوجه مع تقديم أفلامهم مجانا للمشاهدين.  صحيح أن المشاهدة المنزلية تحرمنا من التقليد السينمائي الجماعي، لكنه الحل الأفضل في ظروف التباعد الاجتماعي. والإيجابي في الأمر هو أن الوقت المتوفر أثناء الحجر دفع الكثيرين إلى مشاهدة كلاسيكيات سينمائية أو أفلاما منسية أو أخرى لم تكن متاحة سابقا.

وبالمقابل، عاد آلاف الأشخاص في ألمانيا وإيران والنرويج وليتوانيا والإمارات العربية وغيرها إلى عروض أفلام في الهواء الطلق، عروض في مآرب السيارات drive in theaters على غرار أيام زمان.  

كما نظمت العديد من العواصم الأوروبية – منها مدريد وبرلين وباريس – عروض أفلام على جدران المباني وفي باحاتها الرئيسية، مما أتاح الفرصة للسكان المحجورين من مشاهدة الأفلام من شرفات منازلهم. وبذلك جاءت السينما إلى أناس أصابهم الملل والشعور بالوحدة.

ولم تقتصر الفعاليات السينمائية على عروض الأفلام، بل تعددت المبادرات لتقدم حلقات نقاشية ولقاءات افتراضية، ومنها برنامج “طلاّت” للهيئة الملكية للأفلام الذي ينظم مرة أو مرتين بالأسبوع لقاءً مع مخرج/مخرجة أو منتج/منتجة أو كاتب/كاتبة أو ناقد/ناقدة عبر تقنية “زووم” ويسمح للمشاركين بالتفاعل.  

مستقبل دور العرض

هل سيلغي فيروس الكورونا مستقبل الصالات أم سيتهافت الجمهور عليها مع نهاية الأزمة؟ هل سيعود نمط المشاهدة كما كان عليه سابقا أم ستحكم منصات العروض سيطرتها؟ هل ستؤثر الضيقة الاقتصادية في فترة ما بعد كورونا على القدرة الشرائية لرواد صالات السينما وتحول دون ذهابهم إليها؟

الخشية كبيرة من أن يسدد هذا التوجه الجديد ضربة قاضية على مستقبل المسارح. حتى شركة يونيفرسال شرعت تعرض على الإنترنت أفلاما حديثة بعد أن بذلت جهودا حثيثة في السنوات الماضية لضمان استمرارية صالات السينما، هذا مع العلم أن النمط المعتمد هو عرض الفيلم تجاريا في الصالات أولا، لفترة ثلاثة أشهر تقريبا، قبل عرضه على المنصات الأخرى.  فقد طرحت فيلم “ترولز وورلد تورز”، الذي كان من المقرر عرضه تجاريا ابتداءً من 10 نيسان/أبريل، وحقق بثلاثة أسابيع ما قد حققه أول أفلام “ترولز” على مدى خمسة أشهر في صالات السينما الأميركية. وسارعت شركات عملاقة أخرى بانتقاد يونيفرسال لكسره قواعد اللعبة الاقتصادية لنظام أفلام هوليوود وفتح الباب أمام الموزعين لتخطي الصالات.

تبقى قناعتي أن لا شيء يعوض عن التجربة السينمائية التي تجمع أناسا في قاعة مظلمة، يتابعون قصة على شاشة كبيرة، يتفاعلون معها ويتحدثون عنها ويناقشونها فيما بعد. لقد أمضينا عقودا مديدة نثمن تجربة دور العرض الفريدة. وتأتي أزمة – التي نرجو أن تكون عابرة وإن هي مفجعة – لنتخلى عن قناعتنا ولنعيد النظر بمسؤوليتنا الفنية والأخلاقية والاجتماعية. فالعروض الافتراضية هي أساسا فردية وتفترض العزلة وتعيق الترابط والتواصل. ولا يجب أن نتناسى أن الاشتراك بالشبكة العنكبوتية ليس بالضرورة بمتناول الجميع والمشاهدة الفردية ليست دائما ميسرة في منازلنا المكتظة أحيانا. إضافة إلى ذلك، قد يتم تهميش جيل كامل – غير جيل الشباب المتمرس على التكنولوجيا. السينما فن شعبي، فن تواصل ومشاطرة وسيبقى كذلك من مومباي إلى نيويورك مرورا بالقاهرة وباريس. قد تكون هذه الأزمة طويلة الأمد وقد تصبح المعيار وليس الاستثناء، لكن من السابق لأوانه اعتبارها كذلك ودحر كل ركائز ومفاهيم السينما.

المهرجانات تتردد فتلغي أو تؤجل أو تنظم عروضا افتراضية

معظم المهرجانات في العالم ألغت فعالياتها أو أجلتها والبعض نظم العروض على شبكة الانترنت، أحيانا بطريقة حصرية جغرافيا. لأول مرة منذ أكثر من سبعة عقود، تم الغاء مهرجان كان الفرنسي في شهر أيار/مايو بعد تردد طويل للقائمين عليه، مع تأجيل سوقه إلى حزيران/يونيو لكن بشكل افتراضي. حتى آخر لحظة حاول تييري فريمو، مدير المهرجان، إنقاذه بعد أن كان قد خاض حربا ضد نتفليكس في دورات سابقة. وصرح “أن القضية لا تخص مهرجان كان بالذات، بل لما يقدمه من دعم لصناعة الأفلام وللفنانين والنقاد والجمهور. إن أحد أهم القطاعات الاقتصادية في العالم مهدد بالخطر”، مضيفا “أن الأهم الآن هو محاربة الفيروس”.

وضعت مهرجانات أخرى أفلامها المختارة أونلاين منها مهرجان قابس بتونس وكذلك المهرجانات المتخصصة بالأفلام الوثائقية أمثال Visions du Reel و CPH:DOX . لكن الأمر ليس بالسهولة، فحقوق العرض عبر الانترنت شائكة إذ لا تحكمها قوانين واضحة، مما يشكل معضلة بالنسبة للقانونيين مع غياب إجراءات وضمانات أكيدة لخطر القرصنة.

وهناك تساؤل حول العرض الأول لفيلم جديد أونلاين ومدى تأثيره على مستقبله، إذ قد يفقد أهليته للمنافسة في مهرجان كبير. لكن، من ناحية أخرى، هل يمكن لفيلم أن يبقى معلبا إلى أجل غير مسمى؟

في الأردن، تمّ تأجيل الدورة الأولى من مهرجان عمان السينمائي الدولي – أول فيلم إلى نهاية آب/أغسطس، فيما يترقب القائمون عليه تطور الإجراءات في البلد والعالم لتحديد شكله، مع الحفاظ على إمكانية تنظيم الدورات المختصة بصناع الأفلام.  

وجاءت مبادرة مهرجان ترايبيكا بالتعاون مع موقع يوتيوب، حيث أطلقت مشروع We are One، وهي أشبه بحركة تضامنية جمعت 20 من أكبر المهرجانات العالمية لتقدم أفلاما على شبكة الانترنت على مدى عشرة أيام (من 29 أيار/مايو إلى 10 حزيران/يونيو). لكنها تبقى مبادرة “رمزية”، إن جاز التعبير، لن تغني عن تعدد المهرجانات، كل واحد بهويته الخاصة، سيما وأن أغلبية أفلام هذا المهرجان معروضة سابقا.

من الأكيد أن غياب المهرجانات واللقاءات التي تجري في إطارها سيؤثر سلبا على صناعة الأفلام المستقلة بالدرجة الأولى. فالمهرجانات ليست مجرد أماكن عرض لأفلام حديثة تتنافس على جوائز، بل هي أيضا أسواق بيع وترويج وتوزيع، تسمح باكتشاف أسماء جديدة في عالم السينما والحصول على الاعتراف؛ إنها محافل لدعم السينمائيين وحلقة ربط بين الأفلام وصناعتها والجمهور. 

بعض المخرجين الذين تحدثت إليهم ذهبوا إلى حدّ القول إن نهاية المهرجانات كما نعرفها تعني نهاية السينما. فبعض المبدعين لم يكونوا ليظهروا لولا المهرجانات، والأفلام القصيرة قد لا تجد منصة أخرى لعرضها، مع العلم أنها أساسية في المسار السينمائي.

وفي المنطقة العربية…

طالما كانت صناعة الأفلام في المنطقة العربية – ولاسيما الشرق أوسطية – هشة، مع دعم حكومي ضئيل ومصادر تمويل شحيحة، وزادتها جائحة كورونا سوءا. معظم شركات الإنتاج أوقفت أو قلّصت نشاطاتها وسيترتب عن ذلك ضعف الإنتاج وإفلاس شركات وإغلاق دور السينما الصغيرة المستقلة. أما المبدعون فسيواجهون صعوبات جمّة في الحصول على مصادر تمويل وإنتاج مشترك الذي يشترط التنقل بين البلدان، فيما قد تحتفظ المؤسسات وصناديق التمويل الغربية بمصادر تمويلها المخفضة لدعم إنتاجها المحلي بالدرجة الأولى. أما بالنسبة للعاملين في صناعة الأفلام، من كوادر وتقنيين، فالوضع قاتم للغاية مع غياب دعم حكومي لهذا القطاع. فكم نحن بعيدون عن الفنانين الألمان الذين رصدت لهم حكومة برلين 50 مليار يورو لمؤازرتهم على تخطي هذه الأزمة!

مفهوم السينما مبني على الحركة والتنقل والتواصل ونحن الآن في الاتجاه المعاكس: انكماش وقومية. كل مهرجان عربي غاب أو تغّيب أثّر سلبيا على الصناعة السينمائية. حبذا لو تخفف المهرجانات في المنطقة من حدة نهجها التنافسي وتولي اهتمامها لدعم صناع الأفلام، الذين سيكونون بأمس الحاجة لهذا الدعم في مرحلة ما بعد كورونا. 

ماذا بعد كورونا؟

هل سيتهافت الجمهور على صالات السينما بعد نهاية الأزمة أم سيستمرون في نمطهم الجديد الذي يوفر لهم الراحة في المنزل أثناء المشاهدة، ولكن يحرمهم من متعة المشاهدة والتفاعل مع الآخرين؟ هذا مرتبط إلى حدّ بعيد بمدة الجائحة، فالزمن قد يغير الأنماط والعادات الاجتماعية والثقافية.

لا يقتصر الأمر فقط على إعادة فتح دور السينما وتنظيم المهرجانات بل أيضا على مستقبل الإنتاج. فثمة مشاريع معلقة تنتظر الاستكمال، وأخرى لم تبدأ التصوير بانتظار جمع الميزانية المطلوبة التي ستشح مصادرها. كما أن العودة إلى التصوير الخارجي قد يكون عسيرا وقد يلجأ المخرجون إلى استوديوهات مستعينين بالخدع التقنية.

من المتوقع أن يغيّر فيروس كوفيد-19محتوى القصة والمعالجة الدرامية. اللافت أن بداية الأزمة شهدت رواجا كبيرا للأفلام الروائية التي تنبأت بتفشي مرض مميت أو بنهاية العالم، فتصدر فيلما Contagion و I am Legend قائمة المشاهدات لما ترتبط أحداثهما بالواقع. ستلهم هذه الفترة الكثيرين من كتاب وصناع أفلام بمواضيع مرتبطة بالحجر أو بالعزلة أو بالجائحة أو بقضايا وجدانية تركز على الذات أو بتأملات أو بمواضيع آنية مرتبطة بهذه الحقبة الاستثنائية.  فما يجري اليوم حولنا قد يفوق ما يدور في مخيلة السيناريست.  ولقد أعطى هذا الوقت “المعلق في الزمن” فسحة كافية لكاتب السيناريو لإعادة كتابة نصه وتطويره.

ثمة قلق وخوف مبرران اليوم. لكن لا يجوز التسرع في اتخاذ قرارات في أجواء قلقة.  في هذه الفترة غير المسبوقة، اتضح أن ثمة تعطشاً للثقافة والابداع، وباتت الانتاجات الفنية متنفسا في الفترة العصيبة وستساهم أيضا في مسار التعافي بعد انتهاء لأزمة. الغذاء أساسي بالدرجة الأولى ولكن غذاء العقل يأتي ثانية، فهو ما يحافظ على صحتنا العقلية المهددة هي أيضا.

المشكلة أن العديد ينظر إلى الفن على أنه قطاع غير حيوي، فمن يفتقد إلى إمكانية تأمين قوته الأساسي، يعتبر وبجدارة أن الرسم أو السينما ترف. لكن، لنأخذ برهة ونفكر: كيف كنا لنمضي أوقاتنا في الحجر من غير أفلام أو موسيقى أو كتب أو رسم؟ فأكثر من أي وقت مضى، لقد أثرى الفنانون حياتنا في العزلة وأضاءوا رمادية محيطنا الضيق.

أخيرا وليس آخرا، إن كانت هناك قناعة واحدة لمرحلة ما بعد كورونا فهي أن الأزمة الاقتصادية ستجتاح كل القطاعات الخاصة والعامة في العالم. وهنا نقول: الثقافة تستحدث فرص عمل التي بدورها تحقق المردود المالي. الفنانون جزء من الاقتصاد. عدد العاملين في الصناعات الإبداعية يفوق الذين يعملون في قطاع صناعة السيارات أو الموضة. إذاً، الصناعات الإبداعية (والسينما حيّز كبير منها) جزء من الحل، على حدّ قول المؤلف الموسيقي الفرنسي الشهير جان ميشال جار.


*ندى دوماني مديرة قسم الإعلام والثقافة في الهيئة الملكية الأردنية للأفلام ومديرة مهرجان عمان السينمائي الدولي – أول فيلم.