هل استحق فيلم “باراسايت” كل هذه الضجة الإعلامية؟
نجح الفيلم الكوري “Parasite” أو “طفيلي” في دخول التاريخ من أوسع أبوابه، فقد حقّق ما لم يكن متوقّعاً أبداً: الفوز بجائزة أفضل فيلم بالأوسكار. وعلى الرغم من ترشيح عدة أفلام بلغات أجنبية في السنوات السابقة للفوز بهذه الجائزة، إلا أن “Parasite” يعدُّ أول فيلم أجنبي في تاريخ الأوسكار يحصل على جائزة أفضل فيلم للعام. ولكن هل حقاً استحق “Parasite” هذه الجائزة وغيرها من الجوائز العالمية؟ وهل حقاً استأهل كل هذه الضجّة التي أُثيرت من حوله؟
طالما فاجأنا المخرج الجنوب كوري “بونغ جون هو” بأفلامه المثيرة للجدل، فقد تمكّن دائماً من تجنيد كل معطيات الفيلم ليخرج لنا بمعادلة تلقينا في دوامة من الأسئلة غير المنتهية؛ The Host, Snowpiercer, Okja وغيرهم، ولكنه في فيلمه “Parasite” انتقل إلى مستوى مختلف تماماً يفوق كل التوقعات.
“Parasite” أو “طفيلي”…أول ما يتبادر إلى ذهنك عند سماع اسم الفيلم أنه سيكون عن وحش ما، أو مجموعة حشرات تُغير على الأرض، خاصة إذا شاهدت أي من أفلام “هو” السابقة. “Parasite” يتناول طفيليات فعلاً ولكنها طفيليات من نوع مختلف!
في هذه الكوميديا السوداء، تعيش عائلة “كيم” في منزل تحت مستوى الأرض، وهي عائلة كاملة بلا عمل، تجني قوت يومها من تجميع علب البيتزا الكرتونية. ليتقدم صديق الابن باقتراح له للعمل عند عائلة “بارك” الثرية في تدريس ابنتهم، وعلى الرغم من أنه غير حاصل على أي شهادة جامعية تُؤهله لهذا العمل، إلا أنه وبمساعدة أخته الماهرة على برنامج “الفوتوشوب”، يُزوّر شهادة تمنحه فرصة العمل لديهم. ومن هنا تبدأ الأحداث – بالقليل من المكر والكثير من المكائد – بالتصاعد تدريجياً لتنشأ علاقة وطيدة بين العائلتين، تعمل فيها عائلة “كيم” لدى عائلة “بارك”، دون أن تعرف الأخيرة أن أفراد عائلة “كيم” هم بالأساس من عائلة واحدة.
“Parasite” يتناول الصراع بين الطبقات والحرب الطاحنة التي على الفقراء خوضها في سبيل العيش. المشهد المتكرر لعائلة “كيم” تجلس في منزلها تحت مستوى الشارع مقابل النافذة التي تطل على رجل يتبوّل أمامهم، ومشهد إطلالة منزل عائلة “بارك” الخلابة بالمقابل، تُمهد للكثير من المشاهد التي تحمل في طياتها تناقضات مشابهة وترمز إلى حجم الفجوة بين الطبقتين. طبقة تحت مستوى الأرض وأخرى فوق الجبل، سلالم للأسفل وأخرى للأعلى وغيرها الكثير، مما يدفعك دون وعي منك للغوص في الفيلم أكثر، لاكتشاف المزيد من الرمزيات هنا وهناك، وتعود دون أن تُخذل.
في الكثير من المشاهد نرى عائلة “كيم” تختبئ في الزوايا وعند إنارة الأضواء يهربون للاختباء تحت أثاث البيت دون أن ينتبه أي من عائلة “بارك” لهم، مع أنهم بنظرة صغيرة للأسفل أو حولهم سيشعرون بوجودهم، ولكن دون فائدة! يبدو ذلك سخيفاً… ولكن هذا تماماً ما أراده “هو”. فقد تمكن مرة أخرى من لفت انتباهك إلى الشق الهائل بين العائلتين اللتين ترمزان لطبقتين كاملتين من البشر. وإذا كان “هو” في “Snowpiercer” الذي يتناول أيضاً الصراع الطبقي، فصل بين الأثرياء والفقراء بوضع الأُوَل في اليمين بمقدمة القطار والأواخر في اليسار بمؤخرة القطار، فإنه في “Parasite” يفصلهم إلى فوق وتحت، عائلة “بارك” وتمثل الطبقة الثرية في الأعلى، وعائلة “كيم” وتمثل الطبقة الفقيرة في الأسفل، في محاولة أخرى منه للتأكيد على أنهم يعيشون في عالمين منفصلين ومختلفين تماماً عن بعضهما. حتى تأطير اللقطات يتناول هذا الفصل بين العالمين. فعند مشاهدة الفيلم ستدرك أن هناك دائماً فاصلا أو عامودا أو حتى خطا وهميا في منتصف الشاشة يفصل بين الطبقتين ويؤكد على هذا الصدع الذي لن يلتئم بسهولة.
في الفيلم تتقاطع الثيمات والأنواع والأساليب، فيُضاعف “هو” شريحة المشاهدين المستهدفين بذكاء ليتواصل مع جمهور واسع متنوع بتناوله موضوعاً عالمياً يؤرّق الجميع منذ الأزل. ويتمكّن في الساعتين والاثنتي عشر دقيقة – وهي مدة الفيلم – من توحيد شرائح المجتمع المفكّك ولو لمرة واحدة!
يبدأ الفيلم بكوميديا لاذعة، ثم يُدمج تدريجياً مع دراما خفيفة لطيفة، لا يهيئك أبداً لما هو قادم، يستدرجك ثم يسحبك بقوة إلى أكثر المشاهد دمويةً وعنفاً. تقف مشدوهاً غير مصدّق أنك كنت تضحك قبل دقائق. وعلى الرغم من أنك تستطيع الجدل بأنها مشاهد غير ضرورية، إلا أنك لن تنكر الأثر الذي ستتركه في نفسك؛ وما بدأ كفيلم كوميدي ينتهي بسوداوية ورعب شديدين حين يعرض لك “هو” ما الذي يُقدم عليه الناس في سبيل الحفاظ على ما يعتقدون أنه يخصّهم.
في النهاية، تكمن قوة “Parasite” في أنك لن تتمكن من تأييد طبقة دون الأخرى ولن تستطيع لوم أي من العائلتين على ما مرّت به الأخرى. وأكثر ما يخيف أنك بالتأكيد لن تودّ أن تصنّف نفسك كواحد من هاتين الطبقتين، ولكنك على الأغلب من إحداهما.
رُشح “Parasite” لخمس جوائز أوسكار وحصل على ثلاث منها، من بينها جائزة أفضل إخراج. كما فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان وبجائزة أفضل فيلم درامي في الجولدن جلوبز وغيرها الكثير من الترشيحات والجوائز من أهم وأشهر مهرجانات العالم. “Parasite. وإجابةً على سؤال سابق فإن “Parasite”، باعتقادي، استحق وعن جدارة كل هذه الجوائز والانتصارات، فهو من أهم أفلام عام 2019 بل وأفضلها.
الفيلم متوفر في مكتبة الأفلام في الهيئة الملكية الأردنية للأفلام.
لقائمة بالأفلام المتوفرة في مكتبة الأفلام، يرجى الضغط هنا
*أميمة أسعد حموري كاتبة سيناريو مستقلة مقيمة في عمان، حاصلة على شهادة الماجيستير في الفنون السينمائية من معهد البحر الأحمر في الأردن. كتبت العديد من سيناريوهات الأفلام القصيرة وسيناريو لفيلم طويل “ثلج”.